فصل: شهادة الزّور

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تعديل

التّعريف

1 - للتّعديل في اللّغة معنيان‏:‏

أ - التّسوية والتّقويم، يقال‏:‏ عدّل الحكم والشّيء تعديلاً‏:‏ أقامه، والميزان‏:‏ سوّاه فاعتدل‏.‏ ب - التّزكية، يقال‏:‏ عدّل الشّاهد أو الرّاوي تعديلاً‏:‏ نسبه إلى العدالة ووصفه بها‏.‏ ومعناه في الاصطلاح الشّرعيّ، لا يخرج عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التّجريح‏:‏

2 - التّجريح في اللّغة‏:‏ مصدر جرّحه، يقال‏:‏ جرّحت الشّاهد‏:‏ إذا أظهرت فيه ما تردّ به شهادته ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك‏.‏

الحكم التّكليفيّ

أ - تعديل الشّهود‏:‏

3 - ذهب الشّافعيّة، والحنابلة، والمالكيّة وأبو يوسف، ومحمّد إلى أنّه‏:‏ يجب على القاضي أن يطلب تعديل الشّهود إذا لم يعلم عدالتهم، سواء أطعن الخصم أم لم يطعن، ولا يجوز له قبول شهادتهم بغير تعديل‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يقبل الحاكم شهادة الشّاهد المسلم الظّاهر العدالة، ولا يسأل عن حال الشّهود حتّى يطعن الخصم، لقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام‏:‏ «المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا محدوداً في فرية»‏.‏

واستثني من هذا شهود الحدود، والقصاص فيشترط عنده الاستقصاء، لأنّ الحدود تدرأ بالشّبهات‏.‏ وفي تعديل الشّهود ورواة الحديث تفصيلات وخلاف تنظر في ‏(‏تزكية‏)‏‏.‏

ب - تعديل الأركان في الصّلاة‏:‏

4 - اتّفق الفقهاء‏:‏ على وجوب تعديل الأركان في الصّلاة، بمعنى الطّمأنينة فيها، من ركوع، وسجود وجلوس بين السّجدتين واعتدال من الرّكوع، إلا أنّ الحنفيّة قالوا بالوجوب دون الفرضيّة، على اصطلاحهم - بمعنى‏:‏ أنّه يأثم بترك الواجب عمداً، وتجب إعادة الصّلاة، لرفع الإثم مع صحّتها - دون الفرض‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ إنّ التّعديل في المذكورات واجب، بمعنى‏:‏ أنّه فرض وركن، تبطل الصّلاة بتركه، عمداً أو سهواً‏.‏

ودليل المسألة حديث المسيء صلاته المعروف‏.‏

ج - قسمة التّعديل‏:‏

5 - وهي‏:‏ أن تقسم العين المشتركة باعتبار القيمة، لا بعدد الأجزاء، كأرض مثلا تختلف قيمة أجزائها باختلافها في قوّة الإنبات، أو القرب من الماء، أو بسقي بعضها بالنّهر، وبعضها بالنّاضح أو بغير ذلك‏.‏ فيكون ثلثها مثلا يساوي بالقيمة ثلثيها، فتقسم قسمة التّعديل‏.‏ فيجعل الثّلث سهما والثّلثان سهماً، إلحاقاً للتّساوي بالقيمة بالتّساوي في الأجزاء‏.‏ وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏قسمة‏)‏‏.‏

د - التّعديل في دم جزاء الصّيد في المناسك‏:‏

6 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى أنّ جزاء الصّيد المثليّ على التّخيير والتّعديل، فيجوز فيه العدول عن المثل إلى قيمة المثل، أو قيمة الصّيد، على اختلاف بينهم في ذلك، يرجع إلى موطنه‏.‏ واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏، أمّا غير المثليّ من الصّيد فيتصدّق بقيمته طعاماً، أو يصوم عن كلّ مدّ يوماً‏.‏

أمّا باقي الدّماء الواجبة بترك واجب، أو ارتكاب منهيّ، ففي جواز التّعديل فيها خلاف بين الفقهاء، وتفصيله في ‏(‏إحرام‏)‏‏.‏

تعذيب

التّعريف

1 - التّعذيب‏:‏ مصدر عذّب، يقال‏:‏ عذّبه تعذيبا‏:‏ إذا منعه، وفطمه عن الأمر‏.‏

قال ابن فارس‏:‏ أصل العذاب الضّرب، ثمّ استعير ذلك في كلّ شدّة، يقال منه‏:‏ عذّب تعذيباً والعذاب‏:‏ اسم بمعنى النّكال والعقوبة‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضَاعَفُ لَها العَذَابُ ضِعْفَيْنِ‏}‏‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّعزير‏:‏

2 - التّعزير‏:‏ تفعيل من العزر، بمعنى‏:‏ المنع والإجبار على الأمر، وأصله النّصرة والتّعظيم‏.‏

وفي اصطلاح الفقهاء‏:‏ عبارة عن التّأديب دون الحدّ‏.‏ وكلّ ما ليس فيه حدّ مقدّر شرعاً فموجبه التّعزير‏.‏ والتّعذيب أعمّ من التّعزير من وجه، لأنّ التّعزير لا يكون إلا بحقّ شرعيّ، بخلاف التّعذيب‏.‏ فقد يكون ظلماً وعدواناً‏.‏ والتّعزير أعمّ من حيث ما يكون به التّعزير‏.‏

ب - التّأديب‏:‏

3 - التّأديب مصدر أدّب، مضعّفا، وثلاثيّه‏:‏ أدب، من باب ضرب، يقال‏:‏ أدّبته أدباً، أي علّمته رياضة النّفس، ومحاسن الأخلاق‏.‏ ويقال‏:‏ أدّبته تأديباً مبالغة وتكثيراً‏:‏ أي عاقبته على إساءته، لأنّ التّأديب سبب يدعو إلى حقيقة الأدب‏.‏

والنّسبة بين التّعذيب والتّأديب‏:‏ عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في التّعزير، لأنّ فيه تعذيبا وتأديبا‏.‏ ويفترق التّعذيب عن التّأديب في التّعذيب الممنوع شرعاً، فإنّه تعذيب، وليس تأديبا، ويفترق التّأديب عن التّعذّب في التّأديب بالكلام والنّصح من غير ضرب، فإنّه تأديب ولا يطلق عليه تعذيب‏.‏

ج - التّمثيل‏:‏

4 - التّمثيل‏:‏ مصدر مثّل‏.‏ وأصله الثّلاثيّ‏:‏ مثل، يقال‏:‏ مثلّث بالقتيل‏:‏ إذا جدعته، وظهرت آثار فعلك عليه تنكيلاً والتّشديد مبالغة، والاسم المثلة - وزان غرفة - والمثلة - بفتح الميم وضمّ الثّاء‏:‏ العقوبة‏.‏ والنّسبة بين التّعذيب والتّمثيل، عموم وخصوص مطلق‏.‏ فالتّعذيب أعمّ من التّمثيل، فكلّ تمثيل تعذيب، وليس كلّ تعذيب تمثيلاً‏.‏ ولا فرق في ذلك بين الحيّ والميّت، لأنّ الآثار تدلّ‏:‏ على أنّ الميّت يتأذّى بما يتأذّى به الحيّ‏.‏

الحكم التّكليفيّ

5 - يختلف حكم التّعذيب باختلاف الأحوال والأسباب‏.‏ والدّواعي للتّعذيب بعضها يرجع إلى قصد المعذّب، سواء أكان بالطّريق المباشر، أم غير المباشر‏.‏

التّعذيب في الأصل ممنوع شرعا، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّ اللّه يعذّب يوم القيامة الّذين يعذّبون النّاس في الدّنيا»‏.‏

وجمهور الفقهاء على أنّ الّذي يتولّى القصاص فيما دون النّفس‏:‏ هو الإمام، وليس للأولياء ذلك، لأنّه لا يؤمن منهم التّجاوز، أو التّعذيب‏.‏

وأمّا في النّفس، فالحنابلة اشترطوا حضور الإمام، أو نائبه، للاحتراز عن التّعذيب‏.‏

أنواع التّعذيب

6 - ينقسم التّعذيب إلى قسمين‏:‏ الأوّل‏:‏ تعذيب الإنسان‏.‏ الثّاني‏:‏ تعذيب الحيوان‏.‏

وكلّ منهما ينقسم‏:‏ إلى مشروع، وغير مشروع، فالأقسام أربعة وهي‏:‏

- 1- التّعذيب المشروع للإنسان‏.‏

- 2 - التّعذيب غير المشروع للإنسان‏.‏

- 3 - التّعذيب المشروع للحيوان‏.‏

- 4 - التّعذيب غير المشروع للحيوان‏.‏

7 - أمّا الأوّل‏:‏ فهو التّعذيب الّذي أمر به الشّارع على وجه الفرضيّة، كالحدود، والقصاص، والتّعزيرات بأنواعها‏.‏ أو على وجه النّدب‏:‏ كتأديب الأولاد‏.‏ أو على وجه الإباحة، كالكيّ في التّداوي، إذا تعيّن علاجا فإنّه مباح‏.‏

وإذا لم تكن الحاجة لأجل التّداوي فإنّه حرام، لأنّه تعذيب بالنّار، ولا يعذّب بالنّار إلا خالقها‏.‏

ومن المشروع رمي الأعداء بالنّار ولو حصل تعذيبهم بها، وذلك عند عدم إمكان أخذهم بغير التّحريق، لأنّ الصّحابة والتّابعين فعلوا ذلك في غزواتهم، وأمّا تعذيبهم بالنّار بعد القدرة عليهم فلا يجوز، لما روى حمزة الأسلميّ رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّره على سريّة وقال له‏:‏ إن وجدتم فلاناً فاحرقوه بالنّار فولّيت فناداني، فرجعت إليه فقال‏:‏ إن وجدتم فلاناً فاقتلوه، ولا تحرقوه، فإنّه لا يعذّب بالنّار إلا ربّ النّار» وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏إحراق 2 /125‏)‏ ومن أنواع التّعذيب المشروع‏:‏ ضرب الأب أو الأمّ ولدهما تأديباً، وكذلك الوصيّ، أو المعلّم بإذن الأب تعليماً‏.‏

وذكر في القنية‏:‏ له إكراه طفله على تعلّم القرآن، والأدب، والعلم، لفرضيّته على الوالدين، وله ضرب اليتيم فيما يضرب ولده، والأمّ كالأب في التّعليم، بخلاف التّأديب، فإنّه لو مات الصّبيّ بضرب الأمّ تأديبا فعليها الضّمان‏.‏

وممّا يذكر‏:‏ أنّ ضرب التّأديب مقيّد بوصف السّلامة، ومحلّه في الضّرب المعتاد، كمّاً وكيفاً ومحلاً، فلو ضربه على الوجه أو على المذاكير يجب الضّمان بلا خلاف، ولو سوطاً واحدا، لأنّه إتلاف‏.‏ ومن التّعذيب المشروع للإنسان ثقب أذن الطّفل من البنات، لأنّ الصّحابة كانوا يفعلونه في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غير نكير‏.‏

تعذيب المتّهم

8 - قسّم الفقهاء المتّهم بسرقة ونحوها إلى ثلاثة أقسام‏:‏

إمّا أن يكون المتّهم معروفاً بالصّلاح، فلا تجوز عقوبته اتّفاقاً‏.‏

وإمّا أن يكون المتّهم مجهول الحال لا يعرف ببرّ ولا فجور، فهذا يحبس حتّى ينكشف حاله، وهذا عند جمهور الفقهاء‏.‏ والمنصوص عليه عند أكثر الأئمّة‏:‏ أنّه يحبسه القاضي والوالي، لما روى أبو داود في سننه، وأحمد، من حديث بهز بن حكيم‏.‏ عن أبيه، عن جدّه‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حَبَس في تهمة»‏.‏

وإمّا أن يكون المتّهم معروفاً بالفجور، كالسّرقة، وقطع الطّريق، والقتل، ونحو ذلك، فيجوز حبسه وضربه، كما «أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الزّبير رضي الله عنه، بتعذيب المتّهم الّذي غيّب ماله حتّى أقرّ به»‏.‏

وقال ابن تيميّة‏:‏ ما علمت أحدا من أئمّة المسلمين يقول‏:‏ إنّ المدّعى عليه في جميع هذه الدّعاوى يحلف، ويرسل بلا حبس، ولا غيره‏.‏ وقال البجيرميّ‏:‏ والظّاهر أنّ الضّرب حرام في الشّقّين، أي سواء كان ضرب ليقرّ، أو ليصدق، خلافا لما توهّم حلّه إذا ضرب ليصدق‏.‏ وقال ابن تيميّة‏:‏ واختلفوا فيه‏:‏ هل الّذي يضربه الوالي دون القاضي، أو كلاهما‏؟‏ أو لا يسوّغ ضربه، على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنّه يضربه الوالي والقاضي، وهذا قول طائفة من أصحاب مالك وأحمد، منهم أشهب بن عبد العزيز، فإنّه قال‏:‏ يمتحن بالحبس والضّرب، ويضرب بالسّوط مجرّداً‏.‏ القول الثّاني‏:‏ أنّه يضربه الوالي دون القاضي، وهذا قول بعض أصحاب الشّافعيّ، وأحمد‏.‏ القول الثّالث‏:‏ أنّه يحبس ولا يضرب، وهذا قول أصبغ، ثمّ قالت طائفة، منهم عمر بن عبد العزيز، ومطرّف، وابن الماجشون‏:‏ إنّه يحبس حتّى يموت‏.‏

9 - أمّا النّوع الثّاني‏:‏ وهو التّعذيب غير المشروع للإنسان، فمنه تعذيب الأسرى، فقد ذكر الفقهاء عدم جواز تعذيبهم، لأنّ الإسلام يدعو إلى الرّفق بالأسرى، وإطعامهم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه مِسْكِينَاً وَيَتِيْمَاً وَأَسِيرَاً‏}‏

وفي الحديث الشّريف «لا تجمعوا عليهم حرّ الشّمس، وحرّ السّلاح، قيلوهم حتّى يبردوا» وهذا الكلام في أسارى بني قريظة، حينما كانوا في الشّمس‏.‏

وإذا كان هناك خوف الفرار، فيصحّ حبس الأسير من غير تعذيب، وإذا رجي أن يدلّ على أسرار العدوّ جاز تهديده وتعذيبه بالقدر الكافي، لتحقيق ذلك، ودليل ذلك‏:‏ ما روي عن الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنّه أمر الزّبير بن العوّام بتعذيب من كتم خبر المال، الّذي كان صلى الله عليه وسلم قد عاهدهم عليه، وقال له‏:‏ أين كنز حييّ بن أخطب‏؟‏ فقال‏:‏ يا محمّد، أنفذته النّفقات والحروب، فقال‏:‏ المال كثير والمسألة أقرب، وقال للزّبير‏:‏ دونك هذا‏.‏ فمسّه الزّبير بشيء من العذاب، فدلّهم على المال»‏.‏

لكن إذا كانوا يعذّبون أسرى المسلمين يجوز معاملتهم بالمثل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه‏}‏ وقوله أيضاً ‏{‏وَالحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَليكُم فَاعْتَدُوا عَلَيه بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيكُم‏}‏ قال الباجيّ‏:‏ لا يمثّل بالأسير، إلا أن يكونوا مثّلوا بالمسلمين‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ قتل الأسير بضرب عنقه، لا يمثّل به، ولا يعبث عليه‏.‏ قيل لمالك‏:‏ أيضرب وسطه‏؟‏ فقال‏:‏ قال اللّه سبحانه ‏{‏فَضَرْبَ الرِّقَاب‏}‏ لا خير في العبث‏.‏

10 - وأمّا النّوع الثّالث‏:‏ وهو التّعذيب المشروع للحيوان - فقد ذكروا له أمثلة، منها‏:‏

أ - تعذيب ماشية الزّكاة والجزية بالوسم - فقد ذهب الفقهاء إلى جوازه، لما روي من فعل الصّحابة في ماشية الزّكاة والجزية‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ لا بأس بكيّ البهائم للعلامة، لأنّهم كانوا يفعلون ذلك في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من غير إنكار‏.‏

ب - إلقاء السّمك الحيّ في النّار ليصير مشويّاً فإنّ المالكيّة ذهبوا‏:‏ إلى جوازه، وذهب أحمد بن حنبل‏:‏ إلى أنّ هذا العمل مكروه، ومع هذا فقد رأى جواز أكله، وهذا بخلاف شيّ الجراد حيّاً، فإنّه يجيزه من غير كراهة، لما أثر أنّ الصّحابة فعلوا ذلك، من غير نكير‏.‏ ج - ومن ذلك التّعذيب الجائز‏:‏ ضرب الحيوان بقدر ما يحصل به التّعليم والتّرويض، ويخاصم الضّارب فيما زاد على القدر الّذي يحتاج إليه، كما في البحر الرّائق‏.‏

11 - وأمّا النّوع الرّابع‏:‏ وهو التّعذيب ‏"‏ غير المشروع ‏"‏ للحيوان‏:‏

فمنه‏:‏ تعذيب الحيوان بالمنع من الأكل والشّرب، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ دخلت امرأة النّار في هرّة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض»‏.‏

ومنه‏:‏ اتّخاذ ذي روح غرضا، أي هدفا للرّمي‏.‏

ومنه‏:‏ قطع رأس الحيوان المذبوح وسلخه قبل أن يبرد، ويسكن عن الاضطراب‏.‏

مواطن البحث

12 - ذكر الفقهاء التّعذيب في مواضع شتّى سبق ذكر عدد منها خلال البحث‏.‏

ومنها أيضاً‏:‏ الجنايات، والتّعزيرات، والتّأديب، والتّذكية، والأسر، والسّياسة الشّرعيّة، والجهاد ‏(‏السّير‏)‏‏.‏

تعريض

التّعريف

1 - التّعريض‏:‏ لغة ضدّ التّصريح، يقال‏:‏ عرّض لفلان وبفلان‏:‏ إذا قال قولاً عامّاً، وهو يعني فلانا، ومنه‏:‏ المعاريض في الكلام، كقولهم‏:‏ إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب‏.‏ وهو في الاصطلاح‏:‏ ما يفهم به السّامع مراد المتكلّم من غير تصريح‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الكناية

2 - الكناية‏:‏ وهي ذكر اللازم، وإرادة الملزوم‏.‏ والفرق بين الكناية والتّعريض‏:‏ أنّ التّعريض هو تضمين الكلام دلالة ليس فيها ذكر، كقول المحتاج‏:‏ جئتك لأسلّم عليك، فيقصد من اللّفظ السّلام، ومن السّياق طلب الحاجة‏.‏

ب - التّورية‏:‏

3 - التّورية‏:‏ وهي أن تطلق لفظاً ظاهراً قريباً في معنى، تريد به معنى آخر بعيداً يتناوله ذلك اللّفظ، لكنّه خلاف ظاهره‏.‏

والفرق بينها وبين التّعريض‏:‏ أنّ فائدة التّورية تراد من اللّفظ، فهي أخصّ من التّعريض، الّذي قد يفهم المراد منه من السّياق والقرائن، أو اللّفظ، فهو أعمّ‏.‏

الحكم التّكليفيّ

يختلف حكم التّعريض بحسب موضوعه كما يلي‏:‏

أوّلا‏:‏ التّعريض في الخطبة

4 - لا خلاف بين الفقهاء في حرمة التّعريض بالخطبة لمنكوحة الغير، والمعتدّة من طلاق رجعيّ، لأنّها في حكم المنكوحة، كما اتّفق الفقهاء على حرمة التّعريض لمخطوبة من صرّح بإجابته وعلمت خطبته، ولم يأذن الخاطب ولم يعرّض عنها‏.‏

لخبر‏:‏ «لا يخطب الرّجل على خطبة أخيه، حتّى يترك الخاطب قبله أو يأذن له الخاطب» ر‏:‏ مصطلح‏:‏ ‏(‏خِطبة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ التّعريض بخطبة المعتدّة غير الرّجعيّة

5 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى جواز التّعريض بالخطبة للمعتدّة عن وفاة، ولم نقف على خلاف بينهم فيها، إلا قولاً للشّافعيّة، مؤدّاه‏:‏ إن كانت عدّة الوفاة بالحمل لم يعرّض لها، خوفا من تكلّف إلقاء الجنين، وهو قول ضعيف عندهم‏.‏

واستدلّ الجمهور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا جُنَاحَ عَلَيكُمْ فيما عَرَّضْتُمْ بِه مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أو أَكْنَنْتُمْ في أَنْفُسِكُمْ‏}‏‏.‏ لأنّها وردت في عدّة الوفاة، كما قال جمهور المفسّرين‏.‏

واختلفوا في جواز التّعريض للمعتدّة من طلاق بائن أو فسخ فذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأظهر، والحنابلة في قول‏:‏ إلى أنّه يحلّ التّعريض لبائن معتدّة بالأقراء أو الأشهر، وذلك لعموم الآية، ولانقطاع سلطة الزّوج عليها، ولا فرق في ذلك بين أن تكون بائنا بينونة صغرى أو كبرى، أو بفسخ، أو فرقة بلعان، أو رضاع، في الأظهر عندهم‏.‏ وهو مذهب مالك، وأحمد‏.‏ ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة، وأحد قولي أحمد‏:‏ لا يحلّ التّعريض للبائن بطلاق رجعيّ، لأنّ لصاحب العدّة المنتهية أن ينكحها بنكاح جديد، فأشبهت الرّجعيّة‏.‏ وذهب الحنفيّة‏:‏ إلى أنّه لا يحلّ التّعريض لمعتدّة من طلاق بنوعيه، لإفضائه إلى عداوة المطلّق‏.‏ ونقل ابن عابدين عن الفتح ‏"‏ الإجماع ‏"‏ بين فقهاء الحنفيّة على حرمة التّعريض للمعتدّة من طلاق مطلقا، ويجوز التّعريض عندهم للمعتدّة من نكاح فاسد، ووطء شبهة‏.‏ وجواز التّعريض بالخطبة للمعتدّة مرتبط بجواز خروج المعتدّة، فمن يجوز لها الخروج من بيت العدّة، يجوز التّعريض بالخطبة لها، ومن لا يجوز لها الخروج لا يجوز التّعريض لها عند الحنفيّة‏.‏

ألفاظ التّعريض بالخطبة

6 - التّعريض‏:‏ هو كلّ لفظ يحتمل الخطبة وغيرها، ولكنّ الفقهاء يذكرون ألفاظاً للتّمثيل له‏:‏ كأنت جميلة، ومن يجد مثلك‏؟‏ وأنّ اللّه ساق لك خيراً، ربّ راغب فيك، ونحو ذلك‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّعريض بالقذف

7 - اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ بالتّعريض بالقذف، فذهب مالك‏:‏ إلى أنّه إذا عرّض بالقذف غير أب يجب عليه الحدّ - إن فهم القذف بتعريضه بالقرائن، كخصام بينهم، ولا فرق في ذلك بين النّظم والنّثر، أمّا الأب إذا عرّض لولده فإنّه لا يحدّ لبعده عن التّهمة‏.‏ وهو أحد قولين للإمام أحمد، لأنّ عمر رضي الله عنه استشار بعض الصّحابة في رجل قال لآخر‏:‏ ما أنا بزان ولا أمّي بزانية‏؟‏ فقالوا‏:‏ إنّه قد مدح أباه وأمّه، فقال عمر‏:‏ قد عرّض لصاحبه، فجلده الحدّ‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ أنّ التّعريض بالقذف، قذف‏.‏ كقوله‏:‏ ما أنا بزان، وأمّي ليست بزانية، ولكنّه لا يحدّ، لأنّ الحدّ يسقط للشّبهة، ويعاقب بالتّعزير، لأنّ المعنى‏:‏ بل أنت زان‏.‏ والتّعريض بالقذف عند الشّافعيّة، كقوله‏:‏ يا ابن الحلال، وأمّا أنا فلست بزان، وأمّي ليست بزانية، فهذا كلّه ليس بقذف وإن نواه، لأنّ النّيّة إنّما تؤثّر، إذا احتمل اللّفظ المنويّ، ولا دلالة هنا في اللّفظ ولا احتمال، وما يفهم منه مستنده قرائن الأحوال‏.‏ هذا هو الأصحّ‏.‏ وقيل‏:‏ هو كناية، أي عن القذف، لحصول الفهم والإيذاء‏.‏ فإن أراد النّسبة إلى الزّنى فقذف، وإلا فلا‏.‏ وسواء في ذلك حالة الغضب وغيرها‏.‏ وهو أحد قولي الإمام أحمد‏.‏

رابعاً‏:‏ التّعريض للمسلم بقتل طالبه من الكفّار

8 - يجوز التّعريض للمسلم لقتل من جاء يطلبه ليردّه إلى دار الكفر، لأنّ عمر رضي الله عنه قال لأبي جندل رضي الله عنه حين ردّ لأبيه‏:‏ اصبر أبا جندل فإنّما هم المشركون، وإنّما دم أحدهم دم كلب يعرّض له بقتل أبيه‏.‏

خامساً - التّعريض للمقرّ بحدّ خالص بالرّجوع

9 - ذهب الشّافعيّة في الصّحيح عندهم‏:‏ إلى أنّه يجوز للقاضي أن يعرّض له بالرّجوع، كأن يقول له في السّرقة‏:‏ لعلّك أخذت من غير حرز، وفي الزّنى‏:‏ لعلّك فاخذت أو لمست، وفي الشّرب‏:‏ لعلّك لم تعلم أنّ ما شربت مسكر لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «قال لمن أقرّ عنده بالسّرقة ما إخالك سرقت» فأعاد عليه مرّتين أو ثلاثاً، وقال لماعز‏:‏ «لعلّك قبّلت، أو غمزت، أو نظرت»‏.‏ وفي قول عندهم‏:‏ لا يعرّض له بالرّجوع، كما لا يصرّح‏.‏ وفي قول‏:‏ يعرّض له، إن لم يعلم أنّ له الرّجوع، فإن علم فلا يعرّض له‏.‏ وذهب الحنفيّة، والإمام أحمد‏:‏ إلى أنّ التّعريض مندوب، لحديث ماعز وتفصيله في الحدود‏.‏

مواطن البحث

10 - يذكر الفقهاء التّعريض في الأبواب الآتية‏:‏ في كتاب النّكاح، والعدّة، وفي الحدود‏:‏ في القذف، والرّجوع عن الإقرار‏.‏ وفي الهدنة‏:‏ وفي الأيمان في القضاء فقط‏.‏

تعريف

التّعريف

1 - التّعريف‏:‏ مصدر عرّف‏.‏ ومن معانيه‏:‏ الإعلام والتّوضيح، ‏"‏ ويقابله التّجهيل ‏"‏ وإنشاد الضّالّة، والتّطييب، وهو مأخوذ من العرف أي‏:‏ الرّائحة، كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُدْخِلْهُم الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ أي طيّبها لهم‏.‏

والتّعريف‏:‏ الوقوف بعرفات‏.‏ ويراد به أيضاً‏:‏ ما يصنعه بعض النّاس في بلادهم يوم عرفة، من التّجمّع والدّعاء، تشبّهاً بالحجّاج‏.‏ ويراد به أيضاً‏:‏ ذهاب الحاجّ بالهدي إلى عرفات، ليعرّف النّاس أنّه هدي‏.‏

وأمّا في الاصطلاح، فللتّعريف عدّة إطلاقات تبعاً للعلوم المختلفة‏:‏

أ - فعند الأصوليّين‏:‏

2 - هو تحديد المفهوم الكلّيّ، بذكر خصائصه ومميّزاته‏.‏ والتّعريف الكامل‏:‏ هو ما يساوي المعرّف تمّام المساواة، بحيث يكون جامعاً مانعاً‏.‏ والحدّ والتّعريف عند الأصوليّين بمعنى واحد، وهو‏:‏ الجامع المانع، سواء أكان بالذّاتيّات، أم بالعرضيّات‏.‏

ب - عند الفقهاء‏:‏

3 - لم نقف للفقهاء على تعريف خاصّ للتّعريف، والّذي يستفاد من الفروع الفقهيّة‏:‏ أنّ استعمالهم هذا اللّفظ لا يخرج عن المعاني اللّغويّة، لكنّهم عند الإطلاق يريدون المعنى الاصطلاحيّ لدى الأصوليّين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإعلان‏:‏

4 - الإعلان خلاف الكتمان، والتّعريف أعمّ، من حيث إنّه قد يكون سرّاً، وقد يكون علانية‏.‏

ب - الكتمان أو الإخفاء‏:‏

5 - الكتمان‏:‏ هو السّكوت عن المعنى، أو إخفاء الشّيء وستره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى‏}‏ أي يسكتون عن ذكره، فالتّعريف مقابل الإخفاء والكتمان‏.‏

حكمه التّكليفي

يختلف حكم التّعريف باختلاف المعرّف‏:‏

أوّلاً‏:‏ التّعريف في الأمصار

6 - هو قصد الرّجل مسجد بلده يوم عرفة، للدّعاء والذّكر، فهذا هو التّعريف في الأمصار الّذي اختلف العلماء فيه، ففعله ابن عبّاس، وعمرو بن حريث رضي الله عنهم، من الصّحابة، وطائفة من البصريّين، والمدنيّين، ورخّص فيه أحمد، وإن كان مع ذلك لا يستحبّه‏.‏ هذا هو المشهور عنه‏.‏ وكرهه طائفة من الكوفيّين، والمدنيّين، كإبراهيم النّخعيّ، وأبي حنيفة، ومالك، وغيرهم‏.‏

ومن كرهه قال‏:‏ هو من البدع، فيندرج في العموم، لفظاً ومعنى‏.‏

ومن رخّص فيه قال‏:‏ فعله ابن عبّاس رضي الله عنهما بالبصرة، حين كان خليفة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم ينكر عليه، وما يفعل في عهد الخلفاء الرّاشدين من غير إنكار لا يكون بدعة‏.‏ لكن ما يزاد على ذلك‏:‏ من رفع الأصوات الرّفع الشّديد في المساجد بالدّعاء، وأنواع من الخطب، والأشعار الباطلة، مكروه في هذا اليوم وغيره‏.‏

قال المرّوذيّ‏:‏ سمعت أبا عبد اللّه يقول‏:‏ ينبغي أن يسرّ دعاءه، لقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ قال‏:‏ هذا في الدّعاء‏.‏ قال‏:‏ وسمعت أبا عبد اللّه يقول‏:‏ وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدّعاء‏.‏

ثانياً‏:‏ تعريف اللُّقَطة

7 - ذهب الأئمّة الثّلاثة، وهو الأصحّ عند إمام الحرمين والغزاليّ من الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّه يجب تعريف اللّقطة، سواء أراد تملّكها، أم حفظها لصاحبها‏.‏

وفيه وجه آخر عند الشّافعيّة، وبه قطع الأكثرون منهم، وهو‏:‏ أنّه لا يجب التّعريف فيما إذا قصد الحفظ أبدا، وقالوا‏:‏ إنّ التّعريف إنّما يجب لتحقيق شرط التّملّك‏.‏

وبيان كيفيّة التّعريف ومدّته ومكانه يرجع إليه في مصطلح ‏(‏لقطة‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّعريف في الدّعوى

8 - لا خلاف بين الفقهاء‏:‏ في أنّ تعريف الشّيء المدّعي والمدّعى عليه - بمعنى كونهما معلومين - شرط لسماع الدّعوى، فلا بدّ من ذكر ما يعيّنهما ويعرّفهما، لأنّ فائدة الدّعوى الإلزام بإقامة الحجّة، والإلزام في المجهول غير متحقّق‏.‏

وفي كلّ ذلك خلاف وتفصيل، يذكر في موطنه في مصطلح ‏(‏دعوى‏)‏‏.‏

تعزير

التّعريف

1 - التّعزير لغة‏:‏ مصدر عزّر من العزر، وهو الرّدّ والمنع، ويقال‏:‏ عزّر أخاه بمعنى‏:‏ نصره، لأنّه منع عدوّه من أن يؤذيه، ويقال‏:‏ عزّرته بمعنى‏:‏ وقّرته، وأيضاً‏:‏ أدّبته، فهو من أسماء الأضداد‏.‏ وسمّيت العقوبة تعزيراً، لأنّ من شأنها أن تدفع الجاني وتردّه عن ارتكاب الجرائم، أو العودة إليها‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ هو عقوبة غير مقدّرة شرعاً، تجب حقّاً للّه، أو لآدميّ، في كلّ معصية ليس فيها حدّ ولا كفّارة غالباً‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحدّ‏:‏

2 - الحدّ لغة‏:‏ المنع‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ عقوبة مقدّرة شرعاً وجبت حقّا للّه تعالى كحدّ الزّنى، أو للعبد كحدّ القذف‏.‏

ب - القصاص‏:‏

3 - القصاص لغة‏:‏ تتبّع الأثر‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل‏.‏

ج - الكفّارة‏:‏

4 - الكفّارة لغة‏:‏ من التّكفير، وهو المحو، والكفّارة جزاء مقدّر من الشّرع، لمحو الذّنب‏.‏ 5 - ويختلف التّعزير عن الحدّ والقصاص والكفّارة من وجوه منها‏:‏

أ - في الحدود والقصاص، إذا ثبتت الجريمة الموجبة لهما لدى القاضي شرعاً، فإنّ عليه الحكم بالحدّ أو القصاص على حسب الأحوال، وليس له اختيار في العقوبة، بل هو يطبّق العقوبة المنصوص عليها شرعا بدون زيادة أو نقص، ولا يحكم بالقصاص إذا عفي عنه، وله هنا التّعزير‏.‏ ومردّ ذلك‏:‏ أنّ القصاص حقّ للأفراد، بخلاف الحدّ‏.‏

وفي التّعزير يختار القاضي من العقوبات الشّرعيّة ما يناسب الحال، فيجب على الّذين لهم سلطة التّعزير الاجتهاد في اختيار الأصلح، لاختلاف ذلك باختلاف مراتب النّاس، وباختلاف المعاصي‏.‏

ب - إقامة الحدّ الواجب لحقّ اللّه لا عفو فيه ولا شفاعة ولا إسقاط، إذا وصل الأمر للحاكم، وثبت بالبيّنة، وكذلك القصاص إذا لم يعف صاحب الحقّ فيه‏.‏ والتّعزير إذا كان من حقّ اللّه تعالى تجب إقامته، ويجوز فيه العفو والشّفاعة إن كان في ذلك مصلحة، أو انزجر الجاني بدونه، وإذا كان من حقّ الفرد فله تركه العفو وبغيره، وهو يتوقّف على الدّعوى، وإذا طالب صاحبه لا يكون لوليّ الأمر عفو ولا شفاعة ولا إسقاط‏.‏

ج - إثبات الحدود والقصاص عند الجمهور لا يثبت إلا بالبيّنة أو الاعتراف، بشروط خاصّة‏.‏ وعلى سبيل المثال‏:‏ لا يؤخذ فيه بأقوال المجنيّ عليه كشاهد، ولا بالشّهادة السّماعيّة، ولا باليمين، ولا بشهادة النّساء‏.‏ بخلاف التّعزير فيثبت بذلك، وبغيره‏.‏

د - لا خلاف بين الفقهاء أنّ من حدّه الإمام فمات من ذلك فدمه هدر، لأنّ الإمام مأمور بإقامة الحدّ، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة‏.‏

أمّا التّعزير فقد اختلفوا فيه، فعند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏:‏ الحكم كذلك في التّعزير‏.‏ أمّا عند الشّافعيّة‏:‏ فالتّعزير موجب للضّمان، وقد استدلّوا على ذلك بفعل عمر رضي الله عنه،‏"‏ إذ أرهب امرأة ففزعت فزعاً، فدفعت الفزعة في رحمها، فتحرّك ولدها، فخرجت، فأخذها المخاض، فألقت غلاما جنينا، فأتي عمر رضي الله عنه بذلك، فأرسل إلى المهاجرين فقصّ عليهم أمرها، فقال‏:‏ ما ترون‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما نرى عليك شيئاً يا أمير المؤمنين، إنّما أنت معلّم ومؤدّب، وفي القوم عليّ رضي الله عنه، وعليّ ساكت‏.‏ قال‏:‏ فما تقول‏:‏ أنت يا أبا الحسن قال‏:‏ أقول‏:‏ إن كانوا قاربوك في الهوى فقد أثموا، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا، وأرى عليك الدّية يا أمير المؤمنين، قال‏:‏ صدقت، اذهب فاقسمها على قومك ‏"‏‏.‏ أمّا من يتحمّل الدّية في النّهاية، فقيل‏:‏ إنّما تكون على عاقلة وليّ الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ إنّها تكون في بيت المال‏.‏

هـ - إنّ الحدود تدرأ بالشّبهات، بخلاف التّعزير، فإنّه يثبت بالشّبهة‏.‏

و - يجوز الرّجوع في الحدود إن ثبتت بالإقرار، أمّا التّعزير فلا يؤثّر فيه الرّجوع‏.‏

ز - إنّ الحدّ لا يجب على الصّغير، ويجوز تعزيره‏.‏

ح - إنّ الحدّ قد يسقط بالتّقادم عند بعض الفقهاء، بخلاف التّعزير‏.‏

الحكم التّكليفيّ

6 - جمهور الفقهاء‏:‏ على أنّ الأصل في التّعزير أنّه مشروع في كلّ معصية لا حدّ فيها، ولا كفّارة‏.‏ ويختلف حكمه باختلاف حاله وحال فاعله‏.‏

حكمة التّشريع

7 - التّعزير مشروع لردع الجاني وزجره، وإصلاحه وتهذيبه‏.‏

قال الزّيلعيّ‏:‏ إنّ الغرض من التّعزير الزّجر‏.‏ وسمّى التّعزيرات‏:‏ بالزّواجر غير المقدّرة‏.‏ والزّجر معناه‏:‏ منع الجاني من معاودة الجريمة، ومنع غيره من ارتكابها، ومن ترك الواجبات، كترك الصّلاة والمماطلة في أداء حقوق النّاس‏.‏

أمّا الإصلاح والتّهذيب فهما من مقاصد التّعزير، وقد بيّن ذلك الزّيلعيّ بقوله‏:‏ التّعزير للتّأديب‏.‏ ومثله تصريح الماورديّ وابن فرحون بأنّ‏:‏ التّعزير تأديب استصلاح وزجر‏.‏ وقال الفقهاء‏:‏ إنّ الحبس غير المحدّد المدّة حدّه التّوبة وصلاح حال الجاني‏.‏

وقالوا‏:‏ إنّ التّعزير شرع للتّطهير، لأنّ ذلك سبيل لإصلاح الجاني‏.‏

وقالوا‏:‏ الزّواجر غير المقدّرة محتاج إليها، لدفع الفساد كالحدود‏.‏

وليس التّعزير للتّعذيب، أو إهدار الآدميّة، أو الإتلاف، حيث لا يكون ذلك واجباً‏.‏ وفي ذلك يقول الزّيلعيّ‏:‏ التّعزير للتّأديب، ولا يجوز الإتلاف، وفعله مقيّد بشرط السّلامة‏.‏ ويقول ابن فرحون‏:‏ التّعزير إنّما يجوز منه ما أمنت عاقبته غالباً، وإلا لم يجز‏.‏

ويقول البهوتيّ‏:‏ لا يجوز قطع شيء ممّن وجب عليه التّعزير، ولا جرحه، لأنّ الشّرع لم يرد بشيء من ذلك، عن أحد يقتدى به، ولأنّ الواجب أدب، والأدب لا يكون بالإتلاف‏.‏ وكلّ ضرب يؤدّي إلى الإتلاف ممنوع، سواء أكان هذا الاحتمال ناشئاً من آلة الضّرب، أم من حالة الجاني نفسه، أم من موضع الضّرب، وتفريعاً على ذلك‏:‏ منع الفقهاء الضّرب في المواضع الّتي قد يؤدّي فيها إلى الإتلاف‏.‏

ولذلك فالرّاجح‏:‏ أنّ الضّرب على الوجه والفرج والبطن والصّدر ممنوع‏.‏

وعلى الأساس المتقدّم منع جمهور الفقهاء في التّعزير‏:‏ الصّفع، وحلق اللّحية، وتسويد الوجه، وإن كان البعض قال به في شهادة الزّور، قال الأسروشنيّ‏:‏ لا يباح التّعزير بالصّفع، لأنّه من أعلى ما يكون من الاستخفاف‏.‏ وقال‏:‏ تسويد الوجه في شهادة الزّور ممنوع بالإجماع، أي بين الحنفيّة‏.‏

قال البهوتيّ‏:‏ يحرم التّعزير بحلق لحيته لما فيه من المثلة ولا تسويد وجهه‏.‏

والتّعزير بالقتل عند من يراه يشترط في آلته‏:‏ أن تكون حادّة من شأنها إحداث القتل بسهولة، بحيث لا يتخلّف عنها القتل، وألّا تكون كالّة، فذلك من المثلة، والرّسول صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنّ اللّه عزّ وجلّ كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» وفي ذلك أمر بالإحسان في القتل، وإراحة ما أحلّ اللّه ذبحه من الأنعام، فالإحسان في الآدميّ أولى‏.‏

المعاصي الّتي شرع فيها التّعزير

8 - المعصية‏:‏ فعل ما حرم، وترك ما فرض، يستوي في ذلك كون العقاب دنيويّاً أو أخرويّاً‏.‏ أجمع الفقهاء على‏:‏ أنّ ترك الواجب أو فعل المحرّم معصية فيها التّعزير، إذا لم يكن هناك حدّ مقدّر‏.‏

ومثال ترك الواجب عندهم‏:‏ منع الزّكاة، وترك قضاء الدّين عند القدرة على ذلك، وعدم أداء الأمانة، وعدم ردّ المغصوب، وكتم البائع ما يجب عليه بيانه، كأن يدلّس في المبيع عيباً خفيّاً ونحوه، والشّاهد والمفتي والحاكم يعزّرون على ترك الواجب‏.‏

ومثال فعل المحرّم‏:‏ سرقة ما لا قطع فيه، لعدم توافر شروط النّصاب أو الحرز مثلاً، وتقبيل الأجنبيّة، والخلوة بها، والغشّ في الأسواق، والعمل بالرّبا، وشهادة الزّور‏.‏

وقد يكون الفعل مباحاً في ذاته لكنّه يؤدّي لمفسدة، وحكمه عند كثير من الفقهاء - وعلى الخصوص المالكيّة - أنّه يصير حراماً، بناء على قاعدة سدّ الذّرائع، وعلى ذلك فارتكاب مثل هذا الفعل فيه التّعزير، ما دام ليست له عقوبة مقدّرة‏.‏

وما ذكر هو عن الواجب والمحرّم، أمّا عن المندوب والمكروه - فعند بعض الأصوليّين‏:‏ المندوب مأمور به، ومطلوب فعله، والمكروه منهيّ عنه، ومطلوب تركه‏.‏

ويميّز المندوب عن الواجب أنّ الذّمّ يسقط عن تارك المندوب، لكنّه يلحق تارك الواجب‏.‏

ويميّز المكروه عن المحرّم‏:‏ أنّ الذّمّ يسقط عن مرتكب المكروه، ولكنّه يثبت على مرتكب المحرّم، وبناء على ذلك ليس تارك المندوب أو فاعل المكروه عاصياً، لأنّ العصيان اسم ذمّ، والذّمّ أسقط عنهما، ولكنّهم يعتبرون من يترك المندوب أو يأتي المكروه مخالفاً، وغير ممتثل‏.‏ وعند آخرين‏:‏ المندوب غير داخل تحت الأمر، والمكروه غير داخل تحت النّهي، فيكون المندوب مرغّباً في فعله، والمكروه مرغّباً عنه‏.‏

وعندهم لا يعتبر تارك المندوب وفاعل المكروه عاصياً‏.‏

وقد اختلف في تعزير تارك المندوب، وفاعل المكروه، ففريق من الفقهاء على عدم جوازه، لعدم التّكليف، ولا تعزير بغير تكليف‏.‏ وفريق أجازه، استناداً على فعل عمر رضي الله عنه، فقد عزّر رجلا أضجع شاة لذبحها، وأخذ يحدّ شفرته وهي على هذا الوضع، وهذا الفعل ليس إلا مكروهاً، ويأخذ هذا الحكم من يترك المندوب‏.‏

وقال القليوبيّ‏:‏ قد يشرع التّعزير ولا معصية، كتأديب طفل، وكافر، وكمن يكتسب بآلة لهو لا معصية فيها‏.‏

اجتماع التّعزير مع الحدّ أو القصاص أو الكفّارة

9 - قد يجتمع التّعزير مع الحدّ، فالحنفيّة لا يرون تغريب الزّاني غير المحصن من حدّ الزّنى‏.‏ فعندهم أنّ حدّه مائة جلدة لا غير، ولكنّهم يجيزون تغريبه بعد الجلد، وذلك على وجه التّعزير‏.‏ ويجوز تعزير شارب الخمر بالقول، بعد إقامة حدّ الشّرب عليه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بتبكيت شارب الخمر بعد الضّرب»‏.‏ والتّبكيت تعزير بالقول، وممّن قال بذلك‏:‏ الحنفيّة، والمالكيّة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ إنّ الجارح عمدا يقتصّ منه ويؤدّب‏.‏

ومن ثمّ فالتّعزير قد اجتمع مع القصاص في الاعتداء على ما دون النّفس عمداً‏.‏

والشّافعيّ يجيز اجتماع التّعزير مع القصاص فيما دون النّفس من الجنايات على البدن، وهو أيضاً يقول بجواز اجتماع التّعزير مع الحدّ، مثل تعليق يد السّارق في عنقه بعد قطعها ساعة من نهار، زيادة في النّكال‏.‏ وقال أحمد بذلك، لما روى فضالة بن عبيد «أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق، ثمّ أمر بها فعلّقت في عنقه»‏.‏ وأنّ عليّاً فعل ذلك، ومثل‏:‏ الزّيادة عن الأربعين في حدّ الشّرب، لأنّ حدّ الشّرب عند الشّافعيّ أربعون‏.‏

وقد يجتمع التّعزير مع الكفّارة‏.‏ فمن المعاصي ما فيه الكفّارة مع الأدب، كالجماع في حرام، وفي نهار رمضان، ووطء المظاهر منها قبل الكفّارة إذا كان الفعل متعمّداً في جميعها‏.‏ وقيل بالتّعزير كذلك في حلف اليمين الغموس عند الشّافعيّ، خلافاً للحنفيّة، فإنّه لا كفّارة في يمين الغموس، وفيها التّعزير‏.‏ وعند مالك في القتل الّذي لا قود فيه، كالقتل الّذي عفي عن القصاص فيه، تجب على القاتل الدّية، وتستحبّ له الكفّارة، ويضرب مائة، ويحبس سنة، وهذا تعزير قد اجتمع مع الكفّارة‏.‏

وقال البعض في القتل شبه العمد‏:‏ بوجوب التّعزير مع الكفّارة، لأنّ هذه حقّ اللّه تعالى، بمنزلة الكفّارة في الخطأ، وليست لأجل الفعل، بل هي بدل النّفس الّتي فاتت بالجناية‏.‏ ونفس الفعل المحرّم - وهو جناية القتل شبه العمد - لا كفّارة فيه‏.‏ وقد استدلّوا على ذلك‏:‏ بأنّه إذا جنى شخص على آخر دون أن يتلف شيئاً فإنّه يستحقّ التّعزير، ولا كفّارة في هذه الجناية‏.‏ بخلاف ما لو أتلف بلا جناية محرّمة، فإنّ الكفّارة تجب بلا تعزير‏.‏

وإنّ الكفّارة في شبه العمد بمنزلة الكفّارة على المجامع في الصّيام والإحرام‏.‏

التّعزير حقّ للّه وحقّ للعبد

10 - ينقسم التّعزير إلى ما هو حقّ للّه، وما هو حقّ للعبد‏.‏ والمراد بالأوّل غالباً‏:‏ ما تعلّق به نفع العامّة، وما يندفع به ضرر عامّ عن النّاس، من غير اختصاص بأحد‏.‏ والتّعزير هنا من حقّ اللّه، لأنّ إخلاء البلاد من الفساد واجب مشروع، وفيه دفع للضّرر عن الأمّة، وتحقيق نفع عامّ‏.‏ ويراد بالثّاني‏:‏ ما تعلّقت به مصلحة خاصّة لأحد الأفراد‏.‏ وقد يكون التّعزير خالص حقّ اللّه، كتعزير تارك الصّلاة، والمفطر عمداً في رمضان بغير عذر، ومن يحضر مجلس الشّراب‏.‏

وقد يكون لحقّ اللّه وللفرد، مع غلبة حقّ اللّه، كنحو تقبيل زوجة آخر وعناقها‏.‏

وقد تكون الغلبة لحقّ الفرد، كما في السّبّ والشّتم والمواثبة‏.‏

وقد قيل بحالات يكون فيها التّعزير لحقّ الفرد وحده، كالصّبيّ يشتم رجلاً لأنّه غير مكلّف بحقوق اللّه تعالى فيبقى تعزيره متمحّضاً لحقّ المشتوم‏.‏

وتظهر أهمّيّة التّفرقة بين نوعي التّعزير في أمور‏:‏

منها‏:‏ أنّ التّعزير الواجب حقّا للفرد أو الغالب فيه حقّه - وهو يتوقّف على الدّعوى - إذا طلبه صاحب الحقّ فيه لزمت إجابته، ولا يجوز للقاضي فيه الإسقاط، ولا يجوز فيه العفو أو الشّفاعة من وليّ الأمر‏.‏

أمّا التّعزير الّذي يجب حقّاً للّه فإنّ العفو فيه من وليّ الأمر جائز، وكذلك الشّفاعة إن كانت في ذلك مصلحة، أو حصل انزجار الجاني بدونه‏.‏ وقد روي عن الرّسول صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ «اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان نبيّه ما يشاء»‏.‏

وقد حصل الخلاف في التّعزير هل هو واجب على وليّ الأمر أم لا فمالك، وأبو حنيفة، وأحمد قالوا بوجوب التّعزير فيما شرع فيه‏.‏

وقال الشّافعيّ‏:‏ إنّه ليس بواجب، استناداً إلى «أنّ رجلاً قال للرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّي لقيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم أصلّيت معنا‏؟‏ قال نعم‏:‏ فتلا عليه آية‏:‏ ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفَاً مِنَ اللَّيلِ إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ‏}‏»‏.‏ وإلى قوله صلى الله عليه وسلم في الأنصار‏.‏ «اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» وإلى «أنّ رجلاً قال للرّسول صلى الله عليه وسلم في حُكْمٍ حَكَمَ به للزّبير لم يرقه‏:‏ إن كان ابن عمّتك، فغضب‏.‏ ولم ينقل أنّه عزّره»‏.‏

وقال آخرون، ومنهم بعض الحنابلة‏:‏ إنّ ما كان من التّعزير منصوصاً عليه كوطء جارية مشتركة يجب امتثال الأمر فيه‏.‏

أمّا ما لم يرد فيه نصّ فإنّه يجب إذا كانت فيه مصلحة، أو كان لا ينزجر الجاني إلا به، فإنّه يجب كالحدّ، أمّا إذا علم أنّ الجاني ينزجر بدون التّعزير فإنّه لا يجب‏.‏ ويجوز للإمام فيه العفو إن كانت فيه مصلحة، وكان من حقّ اللّه تعالى، خلاف ما هو من حقّ الأفراد‏.‏

التّعزير عقوبة مفوّضة

المراد بالتّفوّض وأحكامه‏:‏

11 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، وهو الرّاجح عن الحنفيّة‏:‏ أنّ التّعزير عقوبة مفوّضة إلى رأي الحاكم، وهذا التّفويض في التّعزير من أهمّ أوجه الخلاف بينه وبين الحدّ الّذي هو عقوبة مقدّرة من الشّارع‏.‏ وعلى الحاكم في تقدير عقوبة التّعزير مراعاة حال الجريمة والمجرم‏.‏ أمّا مراعاة حال الجريمة فللفقهاء فيه نصوص كثيرة، منه قول الأستروشنيّ‏:‏ ينبغي أن ينظر القاضي إلى سببه، فإن كان من جنس ما يجب به الحدّ ولم يجب لمانع وعارض، يبلغ التّعزير أقصى غاياته‏.‏

وإن كان من جنس ما لا يجب الحدّ لا يبلغ أقصى غاياته، ولكنّه مفوّض إلى رأي الإمام‏.‏

وأمّا مراعاة حال المجرم فيقول الزّيلعيّ‏:‏ إنّه في تقدير التّعزير ينظر إلى أحوال الجانين، فإنّ من النّاس من ينزجر باليسير‏.‏ ومنهم من لا ينزجر إلا بالكثير‏.‏ يقول ابن عابدين‏:‏ إنّ التّعزير يختلف باختلاف الأشخاص، فلا معنى لتقديره مع حصول المقصود بدونه، فيكون مفوّضا إلى رأي القاضي، يقيمه بقدر ما يرى المصلحة فيه‏.‏

ويقول السّنديّ‏:‏ إنّ أدنى التّعزير على ما يجتهد الإمام في الجاني، بقدر ما يعلم أنّه ينزجر به، لأنّ المقصود من التّعزير الزّجر، والنّاس تختلف أحوالهم في الانزجار، فمنهم من يحصل له الزّجر بأقلّ الضّربات، ويتغيّر بذلك‏.‏ ومنهم من لا يحصل له الزّجر بالكثير من الضّرب‏.‏ ونقل عن أبي يوسف‏:‏ إنّ التّعزير يختلف على قدر احتمال المضروب‏.‏

وقد منع بعض الحنفيّة تفويض التّعزير، وقالوا بعدم تفويض ذلك للقاضي، لاختلاف حال القضاة، وهذا هو الّذي قال به الطّرسوسيّ في شرح منظومة الكنز‏.‏ وقد أيّدوا هذا الرّأي بأنّ المراد من تفويض التّعزير إلى رأي القاضي ليس معناه التّفويض لرأيه مطلقا، بل المقصود القاضي المجتهد‏.‏ وقد ذكر السّنديّ‏:‏ أنّ عدم التّفويض هو الرّأي الضّعيف عند الحنفيّة‏.‏ وقال أبو بكر الطّرسوسيّ في أخبار الخلفاء المتقدّمين‏:‏ إنّهم كانوا يراعون قدر الجاني وقدر الجناية، فمن الجانين من يضرب، ومنهم من يحبس، ومنهم من يقام واقفا على قدميه في المحافل، ومنهم من ينتزع عمامته، ومنهم من يحلّ حزامه‏.‏

ونصّ المالكيّة‏:‏ على أنّ التّعزير يختلف من حيث المقادير، والأجناس، والصّفات، باختلاف الجرائم، من حيث كبرها، وصغرها، وبحسب حال المجرم نفسه، وبحسب حال القائل والمقول فيه والقول، وهو موكول إلى اجتهاد الإمام‏.‏

قال القرافيّ‏:‏ إنّ التّعزير يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وتطبيقا لذلك قال ابن فرحون‏:‏ ربّ تعزير في بلد يكون إكراما في بلد آخر، كقطع الطّيلسان ليس تعزيراً في الشّام بل إكرام، وكشف الرّأس عند الأندلسيّين ليس هواناً مع أنّه في مصر والعراق هوان‏.‏ وقال‏:‏ إنّه يلاحظ في ذلك أيضا نفس الشّخص، فإنّ في الشّام مثلاً من كانت عادته الطّيلسان وألفه - من المالكيّة وغيرهم - يعتبر قطعه تعزيرا لهم‏.‏ فما ذكر ظاهر منه‏:‏ أنّ الأمر لم يقتصر على اختلاف التّعزير باختلاف الزّمان والمكان والأشخاص، مع كون الفعل محلاً لذلك، بل إنّ هذا الاختلاف قد يجعل الفعل نفسه غير معاقب عليه، بل قد يكون مكرمة‏.‏

الأنواع الجائزة في عقوبة التّعزير

12 - يجوز في مجال التّعزير‏:‏ إيقاع عقوبات مختلفة، يختار منها الحاكم في كلّ حالة ما يراه مناسبا محقّقا لأغراض التّعزير‏.‏ وهذه العقوبات قد تنصبّ على البدن، وقد تكون مقيّدة للحرّيّة، وقد تصيب المال، وقد تكون غير ذلك‏.‏ وفيما يلي بيان هذا الإجمال‏.‏

العقوبات البدنيّة‏:‏

أ - التّعزير بالقتل‏:‏

13 - الأصل‏:‏ أنّه لا يبلغ بالتّعزير القتل، وذلك لقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتيْ حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ‏}‏ وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحلّ دمُ امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث‏:‏ الثّيّبُ الزّاني، والنّفسُ بالنّفس، والتّاركُ لدينه المفارق للجماعة»‏.‏

وقد ذهب بعض الفقهاء إلى جواز القتل تعزيرا في جرائم معيّنة بشروط مخصوصة، من ذلك‏:‏ قتل الجاسوس المسلم إذا تجسّس على المسلمين، وذهب إلى جواز تعزيره بالقتل مالك وبعض أصحاب أحمد، ومنعه أبو حنيفة، والشّافعيّ، وأبو يعلى من الحنابلة‏.‏

وتوقّف فيه أحمد‏.‏ ومن ذلك‏:‏ قتل الدّاعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسّنّة كالجهميّة‏.‏ ذهب إلى ذلك كثير من أصحاب مالك، وطائفة من أصحاب أحمد‏.‏

وأجاز أبو حنيفة التّعزير بالقتل فيما تكرّر من الجرائم، إذا كان جنسه يوجب القتل، كما يقتل من تكرّر منه اللّواط أو القتل بالمثقّل‏.‏ وقال ابن تيميّة‏:‏ وقد يستدلّ على أنّ المفسد إذا لم ينقطع شرّه إلا بقتله فإنّه يقتل، لما رواه مسلم في صحيحه عن عرفجة الأشجعيّ رضي الله عنه قال‏:‏ «سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم، أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه»

ب - التّعزير بالجلد‏:‏

14 - الجلد في التّعزير مشروع، ودليله قول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط، إلا في حدّ من حدود اللّه تعالى»‏.‏

وفي الحريسة الّتي تؤخذ من مراتعها غرم ثمنها مرّتين، وضرب نكال‏.‏ وكذلك الحكم في سرقة التّمر يؤخذ من أكمامه، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال «سئل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن التّمر المعلّق، فقال‏:‏ من أصاب منه بفيه من ذي حاجة غير متّخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجنّ فعليه القطع» رواه النّسائيّ وأبو داود‏.‏ وفي رواية قال «سمعت رجلاً من مزينة يسأل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عن الحريسة الّتي توجد في مراتعها‏؟‏ قال‏:‏ فيها ثمنها مرّتين، وضرب نكال‏.‏ وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجنّ‏.‏ قال‏:‏ يا رسول اللّه، فالثّمار وما أخذ منها في أكمامها‏؟‏ قال‏:‏ من أخذ بفمه ولم يتّخذ خبنة فليس عليه شيء، ومن احتمل فعليه ثمنه مرّتين، وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع، إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجنّ» رواه أحمد والنّسائيّ‏.‏ ولابن ماجه معناه، وزاد النّسائيّ في آخره‏:‏ «وما لم يبلغ ثمن المجنّ ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال»‏.‏ وقد سار على هذه العقوبة في التّعزير الخلفاء الرّاشدون ومن بعدهم من الحكّام، ولم ينكر عليهم أحد‏.‏

مقدار الجلد في التّعزير

15 - ممّا لا خلاف فيه عند الحنفيّة‏:‏ أنّ التّعزير لا يبلغ الحدّ، لحديث‏:‏ «من بلغ حدّاً في غير حدّ فهو من المعتدين» واختلف الحنفيّة في أقصى الجلد في التّعزير‏:‏

فيرى أبو حنيفة‏:‏ أنّه لا يزيد عن تسعة وثلاثين سوطا بالقذف والشّرب، أخذا عن الشّعبيّ، إذ صرف كلمة الحدّ في الحديث إلى حدّ الأرقّاء وهو أربعون‏.‏

وأبو يوسف قال بذلك أوّلا، ثمّ عدل عنه إلى اعتبار أقلّ حدود الأحرار وهو ثمانون جلدة‏.‏

وجه ما ذهب إليه أبو حنيفة‏:‏ أنّ الحديث ذكر حدّا منكّرا، وأربعون جلدة حدّ كامل في الأرقّاء عند الحنفيّة في القذف والشّرب، فينصرف إلى الأقلّ‏.‏

وأبو يوسف اعتمد على أنّ الأصل في الإنسان الحرّيّة، وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ، فليس حدّاً كاملاً، ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل في كلّ باب‏.‏ وفي عدد الجلدات روايتان عن أبي يوسف‏:‏ إحداهما‏:‏ أنّ التّعزير يصل إلى تسعة وسبعين سوطا، وهي رواية هشام عنه، وقد أخذ بذلك زفر، وهو قول عبد الرّحمن بن أبي ليلى، وهو القياس، لأنّه ليس حدّاً فيكون من أفراد المسكوت عن النّهي عنه في حديث‏:‏ «من بلغ حدّاً في غير حدّ‏.‏‏.‏‏.‏»

والثّانية‏:‏ وهي ظاهر الرّواية عن أبي يوسف‏:‏ أنّ التّعزير لا يزيد على خمسة وسبعين سوطاً، وروي ذلك أثرا عن عمر رضي الله عنه، كما روي عن عليّ رضي الله عنه أيضاً، وأنّهما قالا‏:‏ في التّعزير خمسة وسبعون‏.‏ وأنّ أبا يوسف أخذ بقولهما في نقصان الخمسة، واعتبر عملهما أدنى الحدود‏.‏

وعند المالكيّة قال المازريّ‏:‏ إنّ تحديد العقوبة لا سبيل إليه عند أحد من أهل المذهب، وقال‏:‏ إنّ مذهب مالك يجيز في العقوبات فوق الحدّ‏.‏

وحكي عن أشهب‏:‏ أنّ المشهور أنّه قد يزاد على الحدّ‏.‏ وعلى ذلك فالرّاجح لدى المالكيّة‏:‏ أنّ الإمام له أن يزيد التّعزير عن الحدّ، مع مراعاة المصلحة الّتي لا يشوبها الهوى‏.‏

وممّا استدلّ به المالكيّة‏:‏ فعل عمر في معن بن زياد لمّا زوّر كتابا على عمر وأخذ به من صاحب بيت المال مالا، إذ جلده مائة، ثمّ مائة أخرى، ثمّ ثالثة، ولم يخالفه أحد من الصّحابة فكان إجماعاً، كما أنّه ضرب صبيغ بن عسل أكثر من الحدّ‏.‏ وروى أحمد بإسناده أنّ عليّا رضي الله عنه أتي بالنّجاشيّ قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين ‏(‏الحدّ‏)‏ وعشرين سوطا، لفطره في رمضان‏.‏

كما روي‏:‏ أنّ أبا الأسود استخلفه ابن عبّاس رضي الله عنهما على قضاء البصرة فأتي بسارق قد جمع المتاع في البيت ولم يخرجه، فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلّى سبيله‏.‏ وقالوا في حديث أبي بردة رضي الله عنه‏:‏ «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود اللّه» إنّه مقصور على زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم، لأنّه كان يكفي الجاني منهم هذا القدر، وتأوّلوه على أنّ المراد بقوله‏:‏ في حدّ، أي في حقّ من حقوق اللّه تعالى، وإن لم يكن من المعاصي المقدّر حدودها لأنّ المعاصي كلّها من حدود اللّه تعالى‏.‏

وعند الشّافعيّة‏:‏ أنّ التّعزير إن كان بالجلد فإنّه يجب أن ينقص عن أقلّ حدود من يقع عليه التّعزير، فينقص في العبد عن عشرين، وفي الحرّ عن أربعين، وهو حدّ الخمر عندهم، وقيل بوجوب النّقص فيهما عن عشرين، لحديث‏:‏ «من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين» ويستوي في النّقص عمّا ذكر جميع الجرائم على الأصحّ عندهم‏.‏ وقيل بقياس كلّ جريمة بما يليق بها ممّا فيه أو في جنسه حدّ، فينقص على سبيل المثال تعزير مقدّمة الزّنى عن حدّه، وإن زاد على حدّ القذف، وتعزير السّبّ عن حدّ القذف، وإن زاد على حدّ الشّرب‏.‏ وقيل في مذهب الشّافعيّة‏:‏ لا يزيد في أكثر الجلد في التّعزير عن عشر جلدات أخذا بحديث أبي بردة‏:‏ «لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ من حدود اللّه» لما اشتهر من قول الشّافعيّ‏:‏ إذا صحّ الحديث فهو مذهبي، وقد صحّ هذا الحديث‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ اختلفت الرّواية عن أحمد في قدر جلد التّعزير، فروي أنّه لا يبلغ الحدّ‏.‏ وقد ذكر الخرقيّ هذه الرّواية، والمقصود بمقتضاها‏:‏ أنّه لا يبلغ بالتّعزير أدنى حدّ مشروع، فلا يبلغ بالتّعزير أربعين، لأنّ الأربعين حدّ العبد في الخمر والقذف، ولا يجاوز تسعة وثلاثين سوطاً في الحرّ، ولا تسعة عشر في العبد على القول بأنّ حدّ الخمر أربعون سوطاً‏.‏ ونصّ مذهب أحمد‏:‏ أن لا يزاد على عشر جلدات في التّعزير، للأثر‏:‏ «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلّا في حدّ‏.‏‏.‏‏.‏» إلا ما ورد من الآثار مخصّصا لهذا الحديث، كوطء جارية امرأته بإذنها، ووطء جارية مشتركة المرويّ عن عمر‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ويحتمل كلام أحمد والخرقيّ‏:‏ أنّه لا يبلغ التّعزير في كلّ جريمة حدّا مشروعاً في جنسها، ويجوز أن يزيد على حدّ غير جنسها، وقد روي عن أحمد ما يدلّ على هذا‏.‏ واستدلّ بما روي عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما فيمن وطئ جارية امرأته بإذنها‏:‏ أنّه يجلد مائة جلدة، وهذا تعزير، لأنّ عقاب هذه الجريمة للمحصن الرّجم، وبما روي عن سعيد بن المسيّب عن عمر رضي الله عنه في الرّجل الّذي وطئ أمة مشتركة بينه وآخر‏:‏ أنّه يجلد الحدّ إلّا سوطاً واحداً، وقد احتجّ بهذا الحديث أحمد‏.‏

وقد زاد ابن تيميّة وابن القيّم رأياً رابعاً‏:‏ هو أنّ التّعزير يكون بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، فيجتهد فيه وليّ الأمر على ألا يبلغ التّعزير فيما فيه حدّ مقدّر ذلك المقدّر، فالتّعزير على سرقة ما دون النّصاب مثلا لا يبلغ به القطع، وقالا‏:‏ إنّ هذا هو أعدل الأقوال، وإنّ السّنّة دلّت عليه، كما مرّ في ضرب الّذي أحلّت له امرأته جاريتها مائة لا الحدّ وهو الرّجم، كما أنّ عليّا وعمر رضي الله عنهما ضربا رجلا وامرأة وجدا في لحاف واحد مائة مائة، وحكم عمر رضي الله عنه فيمن قلّد خاتم بيت المال بضربه ثلاثمائة على مرّات، وضرب صبيغ بن عسل للبدعة ضربا كثيرا لم يعدّه‏.‏

وخلاصة مذهب الحنابلة‏:‏ أنّ فيه من يقول بأنّ التّعزير لا يزيد على عشر جلدات، ومن يقول‏:‏ بأنّه لا يزيد على أقلّ الحدود، ومن يقول‏:‏ بأنّه لا يبلغ في جريمة قدر الحدّ فيها، وهناك من يقول‏:‏ بأنّه لا يتقيّد بشيء من ذلك، وأنّه يكون بحسب المصلحة، وعلى قدر الجريمة، فيما ليس فيه حدّ مقدّر‏.‏ والرّاجح عندهم التّحديد سواء أكان بعشر جلدات أم بأقلّ من أدنى الحدود أم بأقلّ من الحدّ المقرّر لجنس الجريمة‏.‏

وما ذكر هو عن الحدّ الأعلى، أمّا عن الحدّ الأدنى فقد قال القدوريّ‏:‏ إنّه ثلاث جلدات، لأنّ هذا العدد أقلّ ما يقع به الزّجر‏.‏ ولكنّ غالبيّة الحنفيّة على أنّ الأمر في أقلّ جلد التّعزير مرجعه الحاكم، بقدر ما يعلم أنّه يكفي للزّجر‏.‏

وقال في الخلاصة‏:‏ إنّ اختيار التّعزير إلى القاضي من واحد إلى تسعة وثلاثين، وقريب من ذلك تصريح ابن قدامة، فقد قال‏:‏ إنّ أقلّ التّعزير ليس مقدّراً فيرجع فيه إلى اجتهاد الإمام أو الحاكم فيما يراه وما تقتضيه حال الشّخص‏.‏

ج - التّعزير بالحبس‏:‏

16 - الحبس مشروع بالكتاب والسّنّة والإجماع أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّلائِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيهنَّ أَرْبَعةً مِنْكُمْ فإنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ في البُيوتِ حتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوتُ أو يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنَّمَا جَزَاءُ الَّذينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَه وَيَسْعَونَ في الأَرْضِ فَسَادَاً أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيدِيهمْ وَأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أو يُنْفَوا من الأرْضِ‏}‏‏.‏ فقد قال الزّيلعيّ‏:‏ إنّ المقصود بالنّفي هنا الحبس‏.‏

وأمّا السّنّة فقد ثبت‏:‏ «أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حبس بالمدينة أناساً في تهمة دم، وحكم بالضّرب والسّجن، وأنّه قال فيمن أمسك رجلاً لآخر حتّى قتله‏:‏ اقتلوا القاتل، واصبروا الصّابر»‏.‏ وفسّرت عبارة «اصبروا الصّابر» بحبسه حتّى الموت، لأنّه حبس المقتول للموت بإمساكه إيّاه‏.‏

وأمّا الإجماع فقد أجمع الصّحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم، على المعاقبة بالحبس‏.‏ واتّفق الفقهاء على أنّ الحبس يصلح عقوبة في التّعزير‏.‏ وممّا جاء في هذا المقام‏:‏ أنّ عمر رضي الله عنه سجن الحطيئة على الهجو، وسجن صبيغا على سؤاله عن الذّاريات، والمرسلات، والنّازعات، وشبهه، وأنّ عثمان رضي الله عنه سجن ضابئ بن الحارث، وكان من لصوص بني تميم وفتّاكهم، وأنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه سجن بالكوفة‏.‏ وأنّ عبد اللّه بن الزّبير رضي الله عنه سجن بمكّة، وسجن في ‏"‏ دارم ‏"‏ محمّد بن الحنفيّة لمّا امتنع عن بيعته‏.‏

مدّة الحبس في التّعزير

17 - الأصل أنّ تقدير مدّة الحبس يرجع إلى الحاكم، مع مراعاة ظروف الشّخص، والجريمة والزّمان والمكان‏.‏ وقد أشار الزّيلعيّ إلى ذلك بقوله‏:‏ ليس للحبس مدّة مقدّرة‏.‏ وقال الماورديّ‏:‏ إنّ الحبس تعزيرا يختلف باختلاف المجرم، وباختلاف الجريمة، فمن الجانين من يحبس يوما، ومنهم من يحبس أكثر، إلى غاية غير مقدّرة‏.‏

لكنّ الشّربينيّ من الشّافعيّة، ذكر أنّ شرط الحبس‏:‏ النّقص عن سنة، كما نصّ عليه الشّافعيّ في الأمّ، وصرّح به معظم الأصحاب‏.‏ وأطلق الحنابلة في تقدير المدّة‏.‏

د - التّعزير بالنّفي ‏"‏ التّغريب ‏"‏‏:‏

مشروعيّة التّعزير بالنّفي

18 - التّعزير بالنّفي مشروع بلا خلاف بين الفقهاء، ودليل مشروعيّته‏:‏ الكتاب والسّنّة والإجماع‏.‏ أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يُنْفَوْا مِن الأرْضِ‏}‏ ومن ثمّ فهو عقوبة مشروعة في الحدود‏.‏ وأمّا السّنّة‏:‏ «فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بالنّفي تعزيرا في المخنّثين، إذ نفاهم من المدينة»‏.‏

وأمّا الإجماع‏:‏ فإنّ عمر رضي الله عنه نفى نصر بن حجّاج لافتتان النّساء به، ولم ينكر عليه أحد من الصّحابة‏.‏

ويجوز كون التّغريب لأكثر من مسافة القصر، لأنّ عمر غرّب من المدينة نصر بن حجّاج إلى البصرة، ونفى عثمان رضي الله عنه إلى مصر، ونفى عليّ رضي الله عنه إلى البصرة‏.‏ ويشترط أن يكون التّغريب لبلد معيّن، فلا يرسل المحكوم عليه به إرسالاً، وليس له أن يختار غير البلد المعيّن لإبعاده، ولا يجوز أن يكون تغريب الجاني لبلده‏.‏

ويرى الشّافعيّ‏:‏ أن لا تقلّ المسافة بين بلد الجاني والبلد المغرّب إليه عن مسيرة يوم وليلة ويرى ابن أبي ليلى‏:‏ أن ينفى الجاني إلى بلد غير البلد الّذي ارتكبت فيه الجريمة بحيث تكون المسافة بين البلد الّذي ينفى إليه وبلد الجريمة، دون مسيرة سفر‏.‏

مدّة التّغريب

19 - لا يعتبر أبو حنيفة التّغريب في الزّنى حدّاً، بل يعتبره من التّعزير، ويترتّب على ذلك‏:‏ أنّه يجيز أن يزيد من حيث المدّة عن سنة‏.‏

ويجوز عند مالك أن يزيد التّغريب في التّعزير عن سنة، مع أنّ التّغريب عنده في الزّنى حدّ، لأنّه يقول بنسخ حديث‏:‏ «من بلغ حدّاً في غير حدّ فهو من المعتدين»‏.‏

والرّاجح عند المالكيّة‏:‏ أنّ للإمام أن يزيد في التّعزير عن الحدّ، مع مراعاة المصلحة غير المشوبة بالهوى‏.‏

وعلى ذلك بعض فقهاء الشّافعيّة، والحنابلة‏.‏ ويرى البعض الآخر منهم‏:‏ أنّ مدّة التّغريب في التّعزير لا يجوز أن تصل إلى سنة، لأنّهم يعتبرون التّغريب في جريمة الزّنى حدّا، وإذا كانت مدّته فيها عاما فلا يجوز عندهم في التّعزير أن يصل التّغريب لعام، لحديث‏:‏ «من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين»‏.‏ وتفصيله في ‏(‏نفي‏)‏‏.‏

هـ - التّعزير بالمال‏:‏

مشروعيّة التّعزير بالمال

20 - الأصل في مذهب أبي حنيفة‏:‏ أنّ التّعزير بأخذ المال غير جائز، فأبو حنيفة ومحمّد لا يجيزانه، بل إنّ محمّدا لم يذكره في كتاب من كتبه‏.‏ أمّا أبو يوسف فقد روي عنه‏:‏ أنّ التّعزير بأخذ المال من الجاني جائز إن رؤيت فيه مصلحة‏.‏

وقال الشبراملسي‏:‏ ولا يجوز على الجديد بأخذ المال‏.‏ يعني لا يجوز التّعزير بأخذ المال في مذهب الشّافعيّ الجديد، وفي المذهب القديم‏:‏ يجوز‏.‏

أمّا في مذهب مالك في المشهور عنه، فقد قال ابن فرحون‏:‏ التّعزير بأخذ المال قال به المالكيّة‏.‏ وقد ذكر مواضع مخصوصة يعزّر فيها بالمال، وذلك في قوله‏:‏ سئل مالك عن اللّبن المغشوش أيراق‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن أرى أن يتصدّق به، إذا كان هو الّذي غشّه‏.‏ وقال في الزّعفران والمسك المغشوش مثل ذلك، سواء كان ذلك قليلاً أو كثيراً، وخالفه ابن القاسم في الكثير، وقال‏:‏ يباع المسك والزّعفران على ما يغشّ به، ويتصدّق بالثّمن أدباً للغاشّ‏.‏ وأفتى ابن القطّان الأندلسيّ في الملاحف الرّديئة النّسج بأن تحرّق‏.‏ وأفتى ابن عتّاب‏:‏ بتقطيعها والصّدقة بها خرقاً‏.‏

وعند الحنابلة يحرم التّعزير بأخذ المال أو إتلافه، لأنّ الشّرع لم يرد بشيء من ذلك عمّن يقتدى به‏.‏ وخالف ابن تيميّة وابن القيّم، فقالا‏:‏ إنّ التّعزير بالمال سائغ إتلافاً وأخذاً‏.‏ واستدلا لذلك بأقضية للرّسول صلى الله عليه وسلم كإباحته سلب من يصطاد في حرم المدينة لمن يجده، وأمره بكسر دنان الخمر، وشقّ ظروفها، وأمره عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما بحرق الثّوبين المعصفرين، وتضعيفه الغرامة على من سرق من غير حرز، وسارق ما لا قطع فيه من الثّمر والكثر، وكاتم الضّالّة‏.‏ ومنها أقضيّة الخلفاء الرّاشدين، مثل أمر عمر وعليّ رضي الله عنهما بتحريق المكان الّذي يباع فيه الخمر، وأخذ شطر مال مانع الزّكاة، وأمر عمر بتحريق قصر سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه الّذي بناه حتّى يحتجب فيه عن النّاس‏.‏ وقد نفّذ هذا الأمر محمّد بن مسلمة رضي الله عنه‏.‏

أنواع التّعزير بالمال

التّعزير بالمال يكون بحبسه أو بإتلافه، أو بتغيير صورته، أو بتمليكه للغير‏.‏

أ - حبس المال عن صاحبه‏:‏

21 - وهو أن يمسك القاضي شيئا من مال الجاني مدّة زجرا له، ثمّ يعيده له عندما تظهر توبته، وليس معناه أخذه لبيت المال، لأنّه لا يجوز أخذ مال إنسان بغير سبب شرعيّ يقتضي ذلك‏.‏ وفسّره على هذا الوجه أبو يحيى الخوارزميّ‏.‏

ونظيره ما يفعل في خيول البغاة وسلاحهم، فإنّها تحبس عنهم مدّة وتعاد إليهم إذا تابوا‏.‏

وصوّب هذا الرّأي الإمام ظهير الدّين التّمرتاشيّ الخوارزميّ‏.‏

أمّا إذا صار ميئوساً من توبته، فإنّ للحاكم أن يصرف هذا المال فيما يرى فيه المصلحة‏.‏

ب - الإتلاف‏:‏

22 - قال ابن تيميّة‏:‏ إنّ المنكرات من الأعيان والصّفات يجوز إتلاف محلّها تبعاً لها، فالأصنام صورها منكرة، فيجوز إتلاف مادّتها، وآلات اللّهو يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء، وبذلك أخذ مالك، وهو أشهر الرّوايتين عن أحمد‏.‏

ومن هذا القبيل أيضاً أوعية الخمر، يجوز تكسيرها وتحريقها، والمحلّ الّذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه، واستدلّ لذلك بفعل عمر رضي الله عنه في تحريق محلّ يباع فيه الخمر، وقضاء عليّ رضي الله عنه تحريق القرية الّتي كان يباع فيها الخمر، ولأنّ مكان البيع كالأوعية‏.‏ وقال‏:‏ إنّ هذا هو المشهور في مذهب أحمد، ومالك، وغيرهما‏.‏

ومن هذا القبيل أيضاً‏:‏ إراقة عمر اللّبن المخلوط بالماء للبيع‏.‏ ومنه ما يراه بعض الفقهاء من جواز إتلاف المغشوشات في الصّناعات، كالثّياب رديئة النّسج، بتمزيقها وإحراقها، وتحريق عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما لثوبه المعصفر بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن تيميّة‏:‏ إنّ هذا الإتلاف للمحلّ الّذي قامت به المعصية نظيره إتلاف المحلّ من الجسم الّذي وقعت به المعصية، كقطع يد السّارق‏.‏ وهذا الإتلاف ليس واجباً في كلّ حالة، فإذا لم يكن في المحلّ مفسد فإنّ إبقاءه جائز، إمّا له أو يتصدّق به‏.‏ وبناء على ذلك أفتى فريق من العلماء‏:‏ بأن يتصدّق بالطّعام المغشوش‏.‏ وفي هذا إتلاف له‏.‏

وكره فريق الإتلاف، وقالوا بالتّصدّق به، ومنهم مالك في رواية ابن القاسم، وهي المشهورة في المذهب‏.‏ وقد استحسن مالك التّصدّق باللّبن المغشوش، لأنّ في ذلك عقابا للجاني بإتلافه عليه، ونفعاً للمساكين بالإعطاء لهم‏.‏ وقال مالك في الزّعفران والمسك بمثل قوله في اللّبن إذا غشّهما الجاني‏.‏ وقال ابن القاسم بذلك في القليل من تلك الأموال، لأنّ التّصدّق بالمغشوش في الكثير من هذه الأموال الثّمينة تضيع به أموال عظيمة على أصحابها، فيعزّرون في مثل تلك الأحوال بعقوبات أخرى‏.‏

وعند البعض‏:‏ أنّ مذهب مالك التّسوية بين القليل والكثير‏.‏ وروى أشهب عن مالك منع العقوبات الماليّة، وأخذ بهذه الرّواية كلّ من مطرّف وابن الماجشون من فقهاء المذهب، وعندهما‏:‏ أنّ من غشّ أو نقص من الوزن يعاقب بالضّرب، والحبس، والإخراج من السّوق، وأنّ ما غشّ من الخبز واللّبن، أو غشّ من المسك والزّعفران لا يفرّق ولا ينهب‏.‏

ج - التّغيير‏:‏

23 - من التّعزير بالتّغيير نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن كسر سكّة المسلمين الجائزة بين المسلمين، كالدّراهم والدّنانير، إلا إذا كان بها بأس، فإذا كانت كذلك كسرت، وفعل الرّسول صلى الله عليه وسلم في التّمثال الّذي كان في بيته، والسّتر الّذي به تماثيل، إذ قطع رأس التّمثال فصار كالشّجرة، وقطع السّتر إلى وسادتين منتبذتين يوطآن‏.‏

ومن ذلك‏:‏ تفكيك آلات اللّهو، وتغيير الصّور المصوّرة‏.‏

د - التّمليك‏:‏

24 - من التّعزير بالتّمليك‏:‏ «قضاء الرّسول صلى الله عليه وسلم فيمن سرق من الثّمر المعلّق قبل أن يؤخذ إلى الجرين بجلدات نكال، وغرم ما أخذ مرّتين» «وفيمن سرق من الماشية قبل أن تؤوي إلى المراح بجلدات نكال، وغرم ذلك مرّتين» وقضاء عمر رضي الله عنه بتضعيف الغرم على كاتم الضّالّة، وقد قال بذلك طائفة من العلماء، منهم‏:‏ أحمد، وغيره، ومن ذلك إضعاف عمر وغيره الغرم في ناقة أعرابيّ أخذها مماليك جياع، إذ أضعف الغرم على سيّدهم، ودرأ القطع‏.‏

أنواع أخرى من التّعزير

هناك أنواع أخرى من التّعزير غير ما سبق‏.‏

منها‏:‏ الإعلام المجرّد، والإحضار لمجلس القضاء، والتّوبيخ والهجر‏.‏

أ - الإعلام المجرّد‏:‏

25 - الإعلام‏:‏ صورته أن يقول القاضي للجاني‏:‏ بلغني أنّك فعلت كذا وكذا، أو يبعث القاضي أمينه للجاني، ليقول له ذلك‏.‏

وقد قيّد البعض الإعلام، بأن يكون مع النّظر بوجه عابس‏.‏

ب - الإحضار لمجلس القضاء‏:‏

26 - قال الكاسانيّ‏:‏ إنّ هذا النّوع من التّعزير يكون بالإعلام، والذّهاب إلى باب القاضي، والخطاب بالمواجهة‏.‏

وقال البعض‏:‏ إنّه يكون بالإعلام، والجرّ لباب القاضي، والخصومة فيما نسب إلى الجاني‏.‏ والفرق بين هذه العقوبة والإعلام المجرّد‏:‏ أنّ في هذه العقوبة يؤخذ الجاني إلى القاضي زيادة عن الإعلام، وذلك ليخاطبه في المواجهة‏.‏ وبناء على ما ذكره الكمال بن الهمام‏:‏ تتميّز هذه عن الإعلام المجرّد بالخصومة فيما نسب إلى الجاني‏.‏ وكثيراً ما يلجأ القاضي لهذين النّوعين أو لواحد منهما إذا كان الجاني قد ارتكب الجريمة على سبيل الزّلّة والنّدور ابتداء، إذا كان ذلك زاجراً، على شريطة كون الجريمة غير جسيمة‏.‏

ج - التّوبيخ‏:‏

مشروعيّة التّوبيخ

27 - التّعزير بالتّوبيخ مشروع باتّفاق الفقهاء، فقد «روى أبو ذرّ رضي الله عنه‏:‏ أنّه سابّ رجلا فعيّره بأمّه، فقال الرّسول صلى الله عليه وسلم يا أبا ذرّ، أعيّرته بأمّه،، إنّك امرؤ فيك جاهليّة»‏.‏ وقال الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته»‏.‏ وقد فسّر النّيل من العرض بأن يقال له مثلا‏:‏ يا ظالم، يا معتد‏.‏ وهذا نوع من التّعزير بالقول‏.‏ وقد جاء في تبصرة الحكّام لابن فرحون‏:‏ وأمّا التّعزير بالقول فدليله ما ثبت في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب فقال‏:‏ اضربوه فقال أبو هريرة‏:‏ فمِنَّا الضّارب بيده، ومنّا الضّارب بنعله، والضّارب بثوبه»‏.‏ وفي رواية بإسناده‏:‏ «ثمّ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بكّتوه فأقبلوا عليه يقولون‏:‏ ما اتّقيت اللّه، ما خشيت اللّه، ما استحييت من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم»‏.‏ وهذا التّبكيت من التّعزير بالقول‏.‏

وقد عزّر عمر رضي الله عنه بالتّوبيخ‏.‏ فقد روي عنه أنّه أنفذ جيشا فغنموا غنائم، فلمّا رجعوا لبسوا الحرير والدّيباج، فلمّا رآهم تغيّر وجهه، وأعرض عنهم، فقالوا‏:‏ أعرضت عنّا، فقال‏:‏ انزعوا ثياب أهل النّار، فنزعوا ما كانوا يلبسون من الحرير والدّيباج‏.‏

وذلك فيه تعزير لهم بالإعراض عنهم، وفيه توبيخ لهم‏.‏

كيفيّة التّوبيخ

28 - التّوبيخ قد يكون بإعراض القاضي عن الجاني، أو بالنّظر له بوجه عبوس، وقد يكون بإقامة الجاني من مجلس القضاء، وقد يكون بالكلام العنيف، ويكون بزواجر الكلام وغاية الاستخفاف، على شريطة أن لا يكون فيه قذف، ومنع البعض ما فيه السّبّ أيضاً‏.‏

د - الهجر‏:‏

29 - الهجر معناه‏:‏ مقاطعة الجاني، والامتناع عن الاتّصال به، أو معاملته بأيّ نوع، أو أيّة طريقة كانت‏.‏ وهو مشروع بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللاتيْ تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ في المَضَاجِعِ‏}‏ وقد «هجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه الثّلاثة الّذين تخلّفوا عنه في غزوة تبوك»‏.‏ وعاقب عمر صبيغا بالهجر لمّا نفاه إلى البصرة، وأمر ألا يجالسه أحد‏.‏ وهذا منه عقوبة بالهجر‏.‏

الجرائم الّتي شرع فيها التّعزير

30 - الجرائم الّتي شرع فيها التّعزير قد تكون من قبيل ما شرع في جنسه عقوبة مقدّرة من حدّ أو قصاص، لكنّ هذه العقوبة لا تطبّق، لعدم توافر شرائط تطبيقها، ومنها ما فيه عقوبة مقدّرة، ولكنّ هذه العقوبة لا تطبّق عليها لمانع، كوجود شبهة تستوجب درء الحدّ، أو عفو صاحب الحقّ عن طلبه‏.‏

وقد تكون الجرائم التّعزيريّة غير ما ذكر فيكون فيها التّعزير أصلاً‏.‏

ويدخل في هذا القسم ما لا يدخل في سابقه من جرائم‏.‏ وفيما يلي تفصيل ذلك‏.‏

الجرائم الّتي يشرع فيها التّعزير بديلاً عن الحدود

جرائم الاعتداء على النّفس، وما دونها

31 - يدخل في هذا الموضوع‏:‏ الكلام في جرائم الاعتداء على النّفس، وهي الّتي يترتّب عليها إزهاق الرّوح، والكلام في جرائم الاعتداء على ما دون النّفس وهي الّتي تقع على البدن دون أن تؤدّي لإزهاق الرّوح‏:‏

جرائم القتل - الجناية على النّفس

القتل العمد

32 - القتل العمد العدوان موجبه القصاص، ويجب لذلك توافر شروط، أهمّها‏:‏ كون القاتل قد تعمّد تعمّدا محضا ليس فيه شبهة، وكونه مختاراً، ومباشراً للقتل، وألا يكون المقتول جزء القاتل، وأن يكون معصوم الدّم مطلقاً‏.‏ وفضلاً عن ذلك يجب للقصاص‏:‏ أن يطلب من وليّ الدّم‏.‏ فإذا اختلّ شرط من هذه الشّروط امتنع القصاص، وفيه التّعزير‏.‏

وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في ‏(‏قتل - قصاص‏)‏‏.‏

القتل شبه العمد‏:‏

33 - قال البهوتيّ، نقلاً عن ‏"‏ المبدع ‏"‏‏:‏ قد يقال بوجوب التّعزير في القتل شبه العمد، لأنّ الكفّارة حقّ للّه تعالى وليست لأجل الفعل، بل بدل النّفس الفائتة، فأمّا نفس الفعل المحرّم - الّذي هو الجناية - فلا كفّارة فيه‏.‏

34 - ومن الأصول الثّابتة عند الحنفيّة‏:‏ أنّ ما لا قصاص فيه عندهم كالقتل بالمثقّل - وهو القتل بمثل الحجر الكبير أو الخشبة العظيمة - يجوز للإمام أن يعزّر فيه بما يصل للقتل، إذا تكرّر ارتكابه، ما دامت فيه مصلحة‏.‏ وبناء على هذا الأصل قالوا بالتّعزير بالقتل لمن يتكرّر منه الخنق، أو التّغريق، أو الإلقاء من مكان مرتفع، إذا لم يندفع فساده إلا بالقتل‏.‏

الاعتداء على ما دون النّفس

35 - إذا كانت الجناية على ما دون النّفس عمدا فيشترط للقصاص فضلا عن شروطه في النّفس‏:‏ المماثلة، وإمكان استيفاء المثل‏.‏

ويرى مالك التّعزير أيضا في الجناية العمد على ما دون النّفس، إذا سقط القصاص، أو امتنع لسبب أو لآخر، فيكون في الجريمة التّعزير مع الدّية، أو الأرش، أو بدونه، تبعاً للأحوال‏.‏ ومثال ذلك أن تكون الجناية على عظم خطر‏.‏

إذ العظام الخطرة لا قصاص فيها عنده، مثل عظام الصّلب، والفخذ، والعنق، ومثل المنقّلة، والمأمومة، ويقال ذلك أيضا في الجائفة، لأنّه لا يستطاع فيها القصاص، وفي كلّ ما ذهبت منفعته بالجناية مع بقائه قائما في الجسم، وبقاء جماله، فإذا ضربه على عينه فذهب بصرها، وبقي جمالها فلا قود فيها‏.‏ ومثل ذلك اليد إذا شلّت ولم تبن عن الجسم، ففي هذه وما يماثلها يعزّر الجاني مع أخذ العقل منه ‏(‏أي الدّية‏)‏‏.‏

وإذا لم يترك الاعتداء على الجسم أثرا‏:‏ فأغلب الفقهاء على أنّ في ذلك التّعزير، لا القصاص‏.‏ ولدى بعض المالكيّة القصاص في ضربة السّوط، ولو لم يحدث جرحا ولا شجّة، مع أنّه لا قصاص عندهم في اللّطمة، وضربة العصا، إلا إذا خلّفت جرحاً أو شجّة‏.‏ وروي عن مالك‏:‏ أنّ ضربة السّوط في ذلك كاللّطمة فيه الأدب، ونقل ذلك ابن عرفة عن أشهب‏.‏ ويرى ابن القيّم وبعض الحنابلة‏:‏ القصاص في اللّطمة والضّربة‏.‏

الزّنى الّذي لا حدّ فيه، ومقدّماته‏:‏

36 - الزّنى إذا توافرت الشّرائط الشّرعيّة لثبوته فإنّ فيه حدّ الزّنى، أمّا إذا لم يطبّق الحدّ المقدّر لوجود شبهة، أو لعدم توافر شريطة من الشّرائط الشّرعيّة لثبوت الحدّ، فإنّ الفعل يكون جريمة شرع الحكم فيها - أو في جنسها - لكنّه لم يطبّق‏.‏

وكلّ جريمة لا حدّ فيها ولا قصاص ففيها التّعزير‏.‏

وبناء على ذلك‏:‏ إذا كانت هناك شبهة تدرأ الحدّ، سواء كانت شبهة فعل، أو شبهة ملك، أو شبهة عقد، فإنّ الحدّ لا يطبّق‏.‏ لكنّ الجاني يعزّر، لأنّه ارتكب جريمة ليست فيها عقوبة مقدّرة‏.‏

وتعرف الشّبهة بأنّها‏:‏ ما يشبه الثّابت وليس بثابت‏.‏ أو‏:‏ هي وجود المبيح صورة، مع عدم حكمه أو حقيقته، وتفصيل ذلك في ‏(‏اشتباه‏)‏‏.‏ وإذا كانت المزنيّ بها ميّتة ففي هذا الفعل التّعزير، لأنّه لا يعتبر زنى، إذ حياة المزنيّ بها شريطة في الحدّ‏.‏

وإذا لم يكن الفعل من رجل فلا يقام الحدّ، بل التّعزير، ومن ذلك‏:‏ المساحقة‏.‏

وإذا لم يكن الفعل في قبل امرأة فأبو حنيفة على عدم الحدّ، لكنّ فيه التّعزير، ومن ذلك أن يكون الفعل في الدّبر‏.‏ وهو قول للشّافعيّة‏.‏ والقول بالقتل على كلّ حال مرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما وهو قول آخر للشّافعيّة، والمذهب عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه زنى، وفيه الحدّ‏.‏ وقال قوم‏:‏ إنّ اللّواط زنى، وفيه حدّ الزّنى‏.‏ ومن هؤلاء‏:‏ مالك، وهو المشهور لدى الشّافعيّ، وهو رأي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة‏.‏ واختلفت الرّواية عن أحمد‏:‏ فقد روي عنه أنّ فيه حدّ الزّنى‏:‏ وإذا كان الفعل في زوجة الفاعل فلا حدّ فيه بالإجماع‏.‏ والجمهور على أنّه يستوجب التّعزير‏.‏ وممّا يستوجب التّعزير في هذا المجال كلّ ما دون الوقاع من أفعال، كالوطء فيما دون الفرج، ويستوي فيه المسلم، والكافر، والمحصن، وغيره‏.‏ ومنه أيضاً‏:‏ إصابة كلّ محرّم من المرأة غير الجماع‏.‏ وعناق الأجنبيّة، أم تقبيلها‏.‏ وممّا فيه التّعزير كذلك‏:‏ كشف العورة لآخر، وخداع النّساء، والقوادة، وهي‏:‏ الجمع بين الرّجال والنّساء للزّنى، وبين الرّجال والرّجال للّواط‏.‏

القذف الّذي لا حدّ فيه والسّبّ

37 - حدّ القذف لا يقام على القاذف إلّا بشرائطه، فإذا انعدم واحد منها أو اختلّ فإنّ الجاني لا يحدّ‏.‏ ويعزّر عند طلب المقذوف، لأنّه ارتكب معصية لا حدّ فيها‏.‏

ومن شروط القذف الّذي فيه الحدّ‏:‏ كون المقذوف محصناً‏.‏ فإذا لم يكن كذلك فلا يحدّ القاذف، ولكن يعزّر‏.‏ ومن ذلك أن يقذف مجنوناً بالزّنى‏.‏ أو صغيراً بالزّنى‏.‏ أو مسلمة قد زنت‏.‏ أو مسلما قد زنى، أو من معها أولاد لا يعرف لهم أب، وذلك لعدم العفّة في هذه الثّلاثة الأخيرة‏.‏ ومنها كون المقذوف معلوماً، فإن لم يكن كذلك فلا حدّ، بل التّعزير، لأنّ الفعل معصية لا حدّ فيها‏.‏ وبناء على ذلك يعزّر - ولا يحدّ - من قذف بالزّنى جدّ آخر دون بيان الجدّ‏.‏ أو أخاه كذلك، وكان له أكثر من أخ‏.‏

ولا حدّ في القذف بغير الصّريح، ومن ذلك‏:‏ القذف بالكناية، أو التّعريض، فليس فيه عند الحنفيّة حدّ، بل التّعزير، وكذلك عند الشّافعيّة‏.‏ ويرى مالك‏:‏ الحدّ في القذف بالتّعريض أو الكناية‏.‏ والّذين منعوا الحدّ قالوا بالتّعزير، لأنّ الفعل يكون جريمة لا حدّ فيها‏.‏

ولا حدّ إذا رماه بألفاظ لا تفيد الزّنى صراحة‏.‏ كقوله‏:‏ يا فاجر، بل يعزّر‏.‏

وكذلك الشّأن إذا رماه بما لا يعتبر زنى، كمن رمى آخر بالتّخنّث‏.‏ ويعزّر كذلك عند أبي حنيفة من يرمي آخر بأنّه يعمل عمل قوم لوط، لأنّ هذا الفعل لا يوجب حدّ الزّنى عنده‏.‏ أمّا مالك والشّافعيّ وأبو يوسف ومحمّد فإنّهم يقولون بالحدّ، ومن ثمّ فلا تعزير في ذلك، بل فيه حدّ القذف عند هؤلاء‏.‏ ومردّ الخلاف‏:‏ هو في أنّ اللّواط هل هو زنى أم لا‏؟‏‏.‏

فمن قالوا‏:‏ بأنّه زنى، جعلوا في القذف به حدّ القذف‏.‏ ومن قالوا‏:‏ بغير ذلك، جعلوا في القذف به التّعزير‏.‏ ومن قذف آخر قذفاً مقيّداً بشرط أو أجل يعزّر ولا يحدّ‏.‏

وإذا لم يكن القول قذفاً، بل مجرّد سبّ أو شتم فإنّه يكون معصية لا حدّ فيها، ففيها التّعزير‏.‏ ومن ذلك قوله‏:‏ يا نصرانيّ، أو يا زنديق، أو يا كافر، في حين أنّه مسلم‏.‏ وكذلك من قال لآخر‏:‏ يا مخنّث، أو يا منافق، ما دام المجنيّ عليه غير متّصف بذلك‏.‏ ويعزّر كذلك في مثل‏:‏ يا آكل الرّبا، أو يا شارب الخمر، أو يا خائن، أو يا سارق، وكلّه بشرط كون المجنيّ عليه غير معروف بما نسب إليه‏.‏ وكذلك من قال لآخر‏:‏ يا بليد، أو يا قذر، أو يا سفيه، أو يا ظالم، أو يا أعور، وهو صحيح، أو يا مقعد، وهو صحيح كذلك على سبيل الشّتم‏.‏ وعلى وجه العموم يعزّر من شتم آخر، مهما كان الشّتم، لأنّه معصية‏.‏ ويرجع في تحديد الفعل الموجب للتّعزير إلى العرف، فإذا لم يكن الفعل المنسوب للمجنيّ عليه ممّا يلحق به في العرف العار والأذى والشّين، فلا عقاب على الجاني، إذ لا يكون ثمّة جريمة‏.‏

السّرقة الّتي لا حدّ فيها

38 - السّرقة من جرائم الحدود ما دامت قد استوفت شروطها الشّرعيّة، وأهمّها‏:‏ الخفية‏.‏ وكون موضوع السّرقة مالا، مملوكا لغير السّارق، محرّزاً، نصاباً‏.‏ فإذا تخلّف شرط من شروط الحدّ فلا يقام، ولكن يعزّر الفاعل، لأنّه ارتكب جريمة ليس فيها حدّ مقدّر‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏سرقة‏)‏‏.‏

قطع الطّريق الّذي لا حدّ فيه

39 - قطع الطّريق كغيره من جرائم الحدود، يجب لكي يكون فيه الحدّ أن تتوافر شروط معيّنة، وإلّا فلا يقام الحدّ، ويعزّر الجاني ما دام قد ارتكب معصية لا حدّ فيها‏.‏

ومن الشّروط‏:‏ أن يكون الجاني بالغاً، ذكراً، وأن يكون المجنيّ عليه مسلماً، أو ذمّيّاً، وأن تكون يده على المال صحيحة، وأن لا يكون في القطّاع ذو رحم محرم لأحد المقطوع عليه، وأن يكون المقطوع فيه مالاً متقوّماً معصوماً مملوكاً، لا ملك فيه للقاطع، ولا شبهة ملك، محرّزاً، نصاباً، وأن يكون قطع الطّريق في غير المصر‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏حرابة‏)‏‏.‏

الجرائم الّتي موجبها الأصليّ التّعزير

بعض الجرائم الّتي تقع على آحاد النّاس

شهادة الزّور

40 - حرّم قول الزّور في القرآن الكريم بقوله تعالى ‏{‏وَاجْتَنِبُوا قَولَ الزُّورِ‏}‏‏.‏

وفي السّنّة بما ورد‏:‏ «أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم عدّ قول الزّور وشهادة الزّور من أكبر الكبائر» وما دام أنّه ليس فيها عقوبة مقدّرة، ففيها التّعزير ‏.‏

الشّكوى بغير حقّ

41 - ذكر صاحب ‏(‏تبصرة الحكّام‏)‏ أنّ من قام بشكوى بغير حقّ يؤدّب‏.‏

وقال البهوتيّ‏:‏ إنّه إذا ظهر كذب المدّعي في دعواه بما يؤذي به المدّعى عليه، فإنّه يعزّر لكذبه وإيذائه للمدّعى عليه‏.‏

قتل حيوان غير مؤذ أو الإضرار به

42 - نهى الرّسول صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان في قوله‏:‏ «إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة حبستها، فلا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» فهذا الفعل معصية، فيعزّر الفاعل ما دام الفعل ليس فيه حدّ مقدّر‏.‏

ومن الأمثلة على الجرائم في هذا المجال‏:‏ قطع ذنب حيوان، فقد ذكر فقهاء الحنفيّة أنّ‏:‏ ممّا يوجب التّعزير ما ذكر ابن رستم فيمن قطع ذنب برذون‏.‏

انتهاك حرمة ملك الغير

43 - دخول بيوت الغير بدون إذن ممنوع شرعاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَدْخُلُوا بُيُوتَاً غَيرَ بُيُوتِكُمْ حتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا‏}‏ وبناء على هذا الأصل قيل بتعزير من يوجد في منزل آخر بغير إذنه أو علمه، ودون أن يتّضح سبب مشروع لهذا الدّخول‏.‏

جرائم مضرّة بالمصلحة العامّة‏:‏

44 - توجد جرائم مضرّة بالمصلحة العامّة ليست فيها عقوبات مقدّرة، وفيها التّعزير‏.‏ من هذه الجرائم‏:‏ التّجسّس للعدوّ على المسلمين، فهو منهيّ عنه لقوله تعالى ‏{‏ولا تَجَسَّسُوا‏}‏، وقوله ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَولِياءَ تُلْقُونَ إِليْهمْ بِالمَوَدَّةِ‏}‏‏.‏

ولمّا كانت هذه الجريمة ليست لها عقوبة مقدّرة ففيها التّعزير‏.‏ وتفصيله في ‏(‏تجسّس‏)‏‏.‏

الرّشوة

45 - هي جريمة محرّمة بالقرآن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏ وهي في اليهود وكانوا يأكلون السّحت من الرّشوة‏.‏

وهي كذلك محرّمة بالسّنّة لحديث‏:‏ «لعن اللّه الرّاشي والمرتشي والرّائش»‏.‏

ولمّا كانت هذه الجريمة ليست فيها عقوبة مقدّرة ففيها التّعزير‏.‏

تجاوز الموظّفين حدودهم، وتقصيرهم

هذه معصية ليست فيها عقوبة مقدّرة، ولها صور منها‏:‏

أ - جور القاضي‏:‏

46 - إذا جار القاضي في الحكم عمدا يعزّر، ويعزل، ويضمن في ماله، لأنّه فيما جار ليس بقاض، ولكنّه إتلاف بغير حقّ، فيكون فيه كغيره في إيجاب الضّمان عليه في ماله‏.‏ إذا جار مخطئا لم يكن عليه غرم قضائه، لأنّه ليس معصوماً عن الخطأ لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَيْسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ به‏}‏

ب - ترك العمل أو الامتناع عمداً عن تأدية الواجب‏:‏

47 - كلّ عمل من شأنه تعطيل الوظائف العامّة أو عدم انتظامها هو جريمة تستوجب التّعزير، والغرض من ذلك ضمان حسن سير العمل، حتّى تقوم السّلطة بواجباتها على أكمل وجه‏.‏ وعلى ذلك‏:‏ فيعزّر كلّ من ترك عمله، أو امتنع عن عمل من أعمال الوظيفة قاصدا عرقلة سير العمل، أو الإخلال بانتظامه، ويعزّر عموما كلّ من يتمرّد في وظيفته، أو يستعمل القوّة، أو العنف مع رؤسائه، ويترك عمله‏.‏

ومن ذلك تعدّي أحد الموظّفين المدنيّين أو العسكريّين على غيره استغلالاً لوظيفته‏.‏

مقاومة رجال السّلطة والاعتداء عليهم

48 - التّعدّي على الموظّفين العموميّين والمكلّفين بخدمة عامّة يستحقّ التّعزير‏.‏

ومن الأمثلة الّتي أوردها الفقهاء في هذا المجال‏:‏ إهانة العلماء أو رجال الدّولة بما لا يليق، سواء كان ذلك بالإشارة، أو القول، أو بغير ذلك‏.‏ والتّعدّي على أحد الجنود باليد، أو تمزيق ثيابه، أو سبّه، ففيه التّعزير، والتّضمين عن التّلف‏.‏ ومن ذلك‏:‏ إهانة محكمة قضائيّة، وكذلك جرائم الجلسة، فالقاضي له فيها التّعزير، وإن عفا فحسن‏.‏

هرب المحبوسين وإخفاء الجناة

49 - من ذلك من يؤوي محاربا، أو سارقا، أو نحوهما، ممّن عليه حقّ للّه تعالى أو لآدميّ، ويمنع من أن يستوفى هذا الحقّ‏.‏ فقد قيل‏:‏ إنّه شريك في جرمه ويعزّر، ويطلب إحضاره، أو الإعلام عن مكانه، فإن امتنع يحبس، ويضرب مرّة بعد مرّة، حتّى يستجيب‏.‏

تقليد المسكوكات الزّيوف والمزوّرة

50 - تقليد المسكوكات الّتي في التّداول والإعانة على صرف العملة الفاسدة ونشرها جريمة فيها التّعزير‏.‏ ففي ‏(‏عدّة أرباب الفتوى‏)‏ في رجل يعمل السّكّة المصنوعة ريالا وذهبا وروبيّة، وفي رجل ينشر هذه المسكوكات الزّائفة ويروّجها‏:‏ أنّهما يعزّران‏.‏

التّزوير

51 - في هذه الجريمة التّعزير، فقد روي‏:‏ أنّ معن بن زياد عمل خاتماً على نقش خاتم بيت المال فأخذ مالاً، فضربه عمر رضي الله عنه مائة جلدة، وحبسه، ثمّ ضربه مائة أخرى، ثمّ ثالثة، ثمّ نفاه‏.‏ ومن موجبات التّعزير‏:‏ كتابة الخطوط والصّكوك بالتّزوير‏.‏

البيع بأكثر من السّعر الجبريّ

52 - قد تدعو الحال لتسعير الحاجيّات، فإن كان ذلك‏:‏ فالبيع بأكثر من السّعر المحدّد فيه التّعزير‏.‏ ومن ذلك‏:‏ الامتناع عن البيع، ففيه الأمر بالواجب والعقاب على ترك الواجب‏.‏ ومن ذلك‏:‏ احتكار الحاجات للتّحكّم في السّعر لحديث‏:‏ «لا يحتكر إلا خاطئ»‏.‏

الغشّ في المكاييل والموازين

53 - يقول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْفُوا الكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِن المُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ‏}‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من غشّنا فليس منّا» وبناء على ذلك‏:‏ فالغشّ في الكيل والوزن معصية، وليس فيها حدّ مقدّر، ففيها التّعزير‏.‏

المشتبه فيهم

54 - قد يكون التّعزير لا لارتكاب فعل معيّن، ولكن لحالة الجاني الخطرة، وقد قال بعض الفقهاء بتعزير من يتّهم بالسّرقة، ولو لم يرتكب سرقة جديدة، ومن يعرف أو يتّهم بارتكاب جرائم ضدّ النّفس، كالقتل والضّرب والجرح‏.‏

سقوط التّعزير

55 - تسقط العقوبة التّعزيريّة بأسباب، منها‏:‏ موت الجاني، والعفو عنه، وتوبته‏.‏

أ - سقوط التّعزير بالموت‏:‏

56 - إذا كانت العقوبة بدنيّة أو مقيّدة للحرّيّة فإنّ موت الجاني مسقط لها بداهة، لأنّ العقوبة متعلّقة بشخصه، ومن ذلك‏:‏ الهجر، والتّوبيخ، والحبس، والضّرب‏.‏

أمّا إذا لم تكن العقوبة متعلّقة بشخص الجاني بل كانت منصّبة على ماله، كالغرامة والمصادرة، فموت الجاني بعد الحكم لا يسقطها، لأنّه يمكن التّنفيذ بها على المال، وهي تصير بالحكم دينا في الذّمّة، وتتعلّق تبعا لذلك بتركة الجاني المحكوم عليه‏.‏

ب - سقوط التّعزير بالعفو‏:‏

57 - العفو جائز في التّعزير إذا كان لحقّ اللّه تعالى، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة إلّا في حدّ من حدود اللّه» وقوله « أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» وقوله في الأنصار‏:‏ «اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم»، «وقوله لرجل - قال له‏:‏ إنّي لقيت امرأة فأصبت منها دون أن أطأها -‏:‏ أصلّيت معنا‏؟‏ فردّ عليه بنعم، فتلا قوله تعالى ‏{‏إنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ‏}‏» فالإمام له العفو‏.‏

وقيل‏:‏ إنّه لا يجوز العفو إذا تعلّق التّعزير بحقّ اللّه تعالى كما في تارك الصّلاة‏.‏

وقال الإصطخريّ في رسالته‏:‏ ومن طعن على أحد الصّحابة، وجب على السّلطان تأديبه، وليس له أن يعفو عنه‏.‏ وقال البعض‏:‏ إنّ ما كان من التّعزير منصوصاً عليه كوطء جارية امرأته، أو جارية مشتركة، يجب امتثال الأمر فيه، فهنا لا يجوز العفو عندهم، بل يجب التّعزير، لامتناع تطبيق الحدّ‏.‏ وقال البعض‏:‏ إنّ العفو يكون لمن كانت منه الفلتة والزّلّة، وفي أهل الشّرف والعفاف، وعلى ذلك‏:‏ فشخص الجاني له اعتبار في العفو‏.‏

وإذا كان التّعزير لحقّ آدميّ فقد قيل كذلك‏:‏ إنّ لوليّ الأمر تركه، والعفو عنه، حتّى ولو طلبه صاحب الحقّ فيه، شأنه في ذلك شأن التّعزير الّذي هو حقّ اللّه تعالى‏.‏

وقيل‏:‏ لا يجوز تركه عند طلبه، مثل القصاص، فليس لوليّ الأمر هنا تركه بعفو أو نحوه، وعلى ذلك أغلب الفقهاء‏.‏ وإذا عفا وليّ الأمر عن التّعزير فيما يمسّ المصلحة العامّة، وكان قد تعلّق بالتّعزير حقّ آدميّ كالشّتم، فلا يسقط حقّ الآدميّ، فعلى وليّ الأمر الاستيفاء، لأنّ الإمام ليس له - على الرّاجح - العفو عن حقّ الفرد‏.‏

وإذا عفا الآدميّ عن حقّه فإنّ عفوه يجوز، ولكن لا يمسّ هذا حقّ السّلطة‏.‏

وقد فرّق الماورديّ في هذا المجال بين حالتين‏:‏

أ - إذا حصل عفو الآدميّ قبل التّرافع، فلوليّ الأمر الخيار بين التّعزير أو العفو‏.‏

ب - وإذا حصل بعد التّرافع، فقد اختلف في العقاب عن حقّ السّلطة على وجهين‏:‏

الأوّل‏:‏ في قول أبي عبد اللّه الزّبيريّ يسقط بالعفو، وليس لوليّ الأمر أن يعزّر فيه، لأنّ حدّ القذف أغلظ ويسقط حكمه بالعفو، فكان حكم التّعزير لحقّ السّلطة أولى بالسّقوط‏.‏ والثّاني - وهو الأظهر - أنّ لوليّ الأمر أن يعزّر فيه مع العفو قبل التّرافع إليه، كما يجوز له ذلك بعد التّرافع مخالفة للعفو عن حدّ القذف في الموضعين، لأنّ التّقويم من الحقوق العامّة‏.‏

سقوط التّعزير بالتّوبة

58 - اختلف الفقهاء في أثر التّوبة في التّعزير‏:‏ فعند الحنفيّة والمالكيّة وبعض الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّه لا تسقط العقوبة بالتّوبة، لأنّها كفّارة عن المعصية‏.‏ وعند هؤلاء في تعليل ذلك‏:‏ عموم أدلّة العقوبة بلا تفرقة بين تائب وغيره عدا المحاربة‏.‏ وفضلاً عن ذلك فجعل التّوبة ذات أثر في إسقاط العقوبة يجعل لكلّ ادّعاءها، للإفلات من العقاب‏.‏

وعند فريق آخر، منهم الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّ التّوبة قبل القدرة تسقط العقوبة قياساً على حدّ المحاربة، استنادا إلى ما ورد في الصّحيحين من حديث أنس رضي الله عنه «كنت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه، إنّي أصبت حدّاً فأقمه عليّ، ولم يسأله عنه‏.‏ فحضرت الصّلاة فصلّى مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ فلمّا قضى النّبيّ صلى الله عليه وسلم الصّلاة قام إليه الرّجل، فأعاد قوله، فقال‏:‏ أليس قد صلّيت معنا‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد غفر لك ذنبك»‏.‏

وفي هذا دليل على أنّ الجاني غفر له لمّا تاب‏.‏ وفضلا عن ذلك فإنّه إذا جازت التّوبة في المحاربة مع شدّة ضررها وتعدّيه، فأولى التّوبة فيما دونها‏.‏ وهؤلاء يقصرون السّقوط بالتّوبة على ما فيه اعتداء على حقّ اللّه، بخلاف ما يمسّ الأفراد‏.‏

وقال ابن تيميّة وابن القيّم‏:‏ إنّ التّوبة تدفع العقوبة في التّعزير وغيره، كما تدفعها في المحاربة، بل إنّ ذلك أولى من المحاربة، لشدّة ضررها، وهذا يعتبر مسلكا وسطا بين من يقول‏:‏ بعدم جواز إقامة العقوبة بعد التّوبة ألبتّة‏.‏ وبين مسلك من يقول‏:‏ إنّه لا أثر للتّوبة في إسقاط العقوبة ألبتّة‏.‏ ويترتّب على هذا الرّأي‏:‏ أنّ التّعزير الواجب حقّا للّه تعالى يسقط بالتّوبة، إلّا إذا اختار الجاني العقوبة ليطهّر بها نفسه، فالتّوبة تسقط التّعزير، على شريطة ألّا يطلب الجاني إقامته، وذلك بالنّسبة لحقوق المصلحة العامّة‏.‏

واحتجّ القائلون بذلك بأنّ اللّه عزّ وجلّ جعل توبة الكفّار سببا لغفران ما سلف واحتجّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِلَّذينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏‏.‏

وأنّ السّنّة عليه كذلك، ففي الحديث‏:‏ «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له»‏.‏